رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثرثرة شتوية

جريدة الدستور



ما إن خلت منضدة رابضة أسفل مظلة المقهى، حتى غادرت موقعى المكشوف متجهًا نحوها. قبل أن تأتى كنت أنظر لموبايلى، حيث ترقد صورتها أمام عينى، كأنما أستعديها قبل أن تأتى إلىّ. أول ما أتت أخذتها بيدى مثل شارة تتابع بسباق عدو؛ إلى ركن منزو هادئ. كنت قد احتبست نفس سيجارة بصدرى، وكان قد حان الوقت كى أفلته من أنفى. تزحلقت يدى فوق جاكتها أو أيًا كان ما تدعى لبسه. حدثتنى عن صديقة قد تصدف وتمر بنا، ويجب عليها أن تبرقها برسالة تذكرها. فقلت فى بالى من قد يخاطر وينزل- بخلافها- فى هذه العتمة إلا خريجو العباسية! من يكون لديه عائلة ويتركها فى هذه السقعة المثلجة إلا لو كان خائنًا وزوجته نائمة فى العسل. تركتها على الكرسى تستريح قبل أن تتداعى منى من المشى؛ وإن كانت تستحق لتأخرها. كنت أقرض أظافرى بأنه ربما قابلها صعلوك من هنا أو من هناك، أو ربما التهم قرش ذاكرتها ولم تتذكر الموعد. قبلها بيوم ظللت أتقافز أمامها مثل أخيلة الظل لأذكرها من حين لآخر بموعدنا. لعلَّ ذلك يفلح بذاكرتها، وتنبت بالموعد المحدد. حينها أتتنى مكالمتها بصوتها الطفولى الشقى ذاته. سألت عن حالى وأحوالى ومحتالى وعاتبتنى مدعية أنى لم أعد أتصل بها!، سألت عن عائلتى، عن جدتى المشلولة كذلك. كانت مكالمة ثقيلة كما خروج جنى من مصباح أمام عينى. لكنى ظللت أحتمل مناهدتها ولم أفزع حتى انتهت. كنت أشعر بالفخامة والعظمة لمجرد أنها تكلمنى. كأن دوارًا، كان يلتبس جسدى وقتئذ. كنت أفكر بكل ذلك وأنا أدفع الحساب. بسرعة قياسية أدهشتنى وبُغتُّ بها واقفة على رأسى تتعجلنى الدفع.
اندهشت لكوننا مشينا كثيرًا حتى تنملت أقدامنا. وسألتها كعادتى مباغتًا مثل مضرب ذباب دبق بوجهها «مالكيش أهل تكلميهم تطمنيهم عليكى دلوقتى؟»، ولكنها أجابت «أكلم مين بس دلوقتى؟» وعلى حين انسجامنا وسباحتنا معًا بالحديث المجدى وغير المجدى ظهر أحدهم مثل فرقع لوز من زقاق ضيق على غرة. وسألتنى وهى تتأبط ذراعى «طلع منين ده يا أخويا؟» ثم، لطمت وصوتت، واستدعت كل عائلتها بمنحى يدعو للعجب، وهى تشير إلى الشاب كأنما رأت شبحًا. كل ما حاولت فعله، أن هدأتها كما حدأة تحدف «كتاكيت». ولكنى فوجئت بأنها تحمل موسًا تحت شفتيها. ما لبثت أن أخرجته، وطوحت به فى الهواء عاوية، وشجت به عباءة السكون أمام الولد المرتعد. وعندما أبعدت اليد المقتحمة بغلظة قالت «حصل خير..» لحقت بها متعجلًا وبداخلى مشاعر مضطربة، لا أعرف من أين أبدأ الحديث معها مجددًا. نظرت إلى حيث تشير. أشارت بلا مبالاة نحو حذاء نسائى برقبة مكسوة بالفرو من الداخل. أخبرتنى أن أمضى للداخل لأقيس الحذاء. أردت أن أماطل، أو أطلع من بالها هذه الفكرة السيئة علها تفكر بشىء آخر.
لا، لم يكن يبدو أنها تمزح. فجأة سألتنى عن رأيى فيما قالته أخيرًا، وضحكت بشدة تجاه صمتى قائلة إنها تعرف أنى لا أحب أن أسمع حديثها عن أختها التوأم. غالبًا كنت أماطل وأنظر فى ساعتى، لأن الوقت قد سلبنى لسانى. أخبرتنى حينما رأت ذلك أنه لم يتبق سوى بضعة شوارع إلى منزلها، وهناك يمكننى أن أسترح.
كان الغيم قد انتصر أخيرًا. وفشلت مصابيح الشوارع وواجهات المحال المفتوحة القليلة فى تبديد الظلمة، بيد أنها أشارت إلى عمارة مهكعة أمامى، قائلة إن فى داخلها بعض المتاجر ومصانع الملابس الصغيرة التى تباع بأسعار مقبولة. جرَّتنى من يدى مثل طفل صغير لأول مرة يرى أمه مذ زمن. وفشلت فى إبعاد كل السيناريوهات المتعلقة لكونها تشبه ريا وسكينة. وأن موسيقى حسب الله سوف تستقبلنى فى الطريق. فور مشاهدتى اللوحة المعلّقة على باب المصعد التى تفيد بعطله، أخبرتها بحزم أننى لن أصعد غير طابقين. لكن بالفعل كان هناك باعة لبالةٍ ما. كنت أغالب عامة ظنونى الماجنة بشأنها وشأن أختها التوأم كذلك. ظللت أتلفت لأن خواطرى السيئة قد غادرتنى وأنا غير مهتم بالفعل. أخرجت كوفية من كومة أمامها، ومدتها مثل ثعبان ولفت لى رقبتى «حلوة عليك.. يا جميل».. أنا بالفعل لم أكن أفكر غير فى ردة فعلها لو قلت لا، والشفرة أمامى بإنش! ثم اقتربت مرة أخرى لتعدل من وضعها، وفجأة وجدتها تثب على طرفيها لتمس شفتاها فمى. أدرت ظهرى بالكاد لها، من عدلتي، شاهدت أنها أخيرا وقفت أمام فرجة الباب وأنها على وشك المغادرة.
وقفت تتقافز مثل كرة جلد «خلاص هتمطر!» خرجت أتبعها وأنا أجد السير خلفها. أدخل أنفاسى اللاهثة بداخلى. كان البقية بالشارع يتسابقون لحجز مكان خلف تندة أو مظلة أمام المحال. التفتت نحوى أخيرًا وهى تسألنى إن كنت مستعدًا للدخول معها فى سباق عدو أسفل المطر. وكل ما كان يدور ببالى هل بقى الكثير أمام رؤيتى للسرير الذى وعدت به أم لا.. كنت فقط أتبعها لكى لا أفقدها وهى تخلفنى ظهرها. ووجدت نفسى مدفوعًا نحوها، لا أدرى ذلك برغباتى، أم رغباتها. لكنى أردت أن أعرف كل شىء، لا أعرفه، عنها.
تمت كتابة «ثرثرة شتوية» من قبل الأستاذ مكاوى سعيد منذ ١١ يناير ٢٠١٦. وبالطبع تم تطعيم هذه القصص بعبارات من القصة السابقة؛ معتبرًا أن الأستاذ مكاوى لن يمانع بذلك غالبًا.