رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معضلة الوجود الإيرانى المسلح فى سوريا «2»


عند المكونات الإيرانية، أو التى يجرى تشغيلها ودعمها من قِبل طهران، وقفنا فى الجزء الأول من استعراض هذا المشروع، الذى بات يمثل حملًا ثقيلًا على أكتاف الملف السورى برمته، بالنظر إلى أن الأمر ممتد من مطلع العام ٢٠١٢، حينها بدأت ميليشيات مدعومة من إيران بدعم قوات النظام فى مواجهاتها مع الفصائل والمجموعات التى تشكلت فى المدن والبلدات السورية، لمقاومة أعمال القمع، أعقبه حضور لضباط من الحرس الثورى الإيرانى للقيام بمهمة مساعدة النظام ودعمه وتقديم المشورة له.

شيئًا فشيئًا بدأت قوات الحرس الثورى تسيطر على مواقع عسكرية ومدنية، وتحتكر إدارة بعض الأحياء والبلدات من الناحية الأمنية، كما تجذرت، بالصورة التى ذكرناها فى الجزء الأول، ضمن أجهزة النظام الأمنية والعسكرية، لتصبح بذلك إحدى القوى الرئيسية المسيطرة على البلاد.

ظل معلومًا للجميع طوال تلك المدة، أن المشاركة الإيرانية المباشرة فى المعارك غالبًا ما تكون عبر قوات تابعة للحرس الثورى، تحديدًا «لواء القدس» الذى يضطلع قائده «قاسم سليمانى» بإدارة ملف الدعم العسكرى للنظام السورى بشكل مباشر، إلا أن هناك حالات سجلت انخراطًا مباشرًا لقوات عسكرية تابعة للجيش الإيرانى فى معارك مثل ما جرى فى ريف حلب الجنوبى عام ٢٠١٧، التى شاركت فيها قوات خاصة تابعة للجيش الإيرانى تعرف باسم القبعات الخضراء. وبدأ لتنفيذ مثل تلك التدخلات العميقة، احتياج لما يشبه السيطرة الكاملة على «مطار دمشق الدولى» من قِبل العناصر الإيرانية، حيث خصص وأدار الحرس الثورى جزءًا منه لاستقبال المقاتلين، وتنسيق الدعم اللوجستى للميليشيات الإيرانية المتواجدة فى سوريا، بالإضافة إلى نقل الأسلحة المتطورة تقنيًا «الصواريخ دقيقة التوجيه» من إيران إلى «حزب الله» اللبنانى عبر سوريا، ما عرّض المطار نتيجة ذلك إلى عدة ضربات جوية إسرائيلية. وبناء على توجيه روسى، جرى الانتقال لاحقًا إلى استخدام مواقع أخرى لتخزين هذه الأسلحة المتطورة، وتنظيم عملية نقلها من خلال استخدام مطار شراعى فى منطقة «الديماس» غرب دمشق.

يسيطر الإيرانيون أيضًا على مطار «T 4» أو «التيفور»، الذى يحمل اسم «قاعدة التياس الجوية»، ويقع فى وسط سوريا شمال مدينة «تدمر»، ويضم الوحدات التى تدير عمليات الطائرات دون طيار الإيرانية فى سوريا. ويمثل هذا المطار موقعًا متقدمًا للإيرانيين فى البادية السورية، بعد سيطرة الروس شبه الكاملة على مدينة «تدمر» صاحبة الموقع الاستراتيجى. وقد تعرض هذا المطار لعدة ضربات إسرائيلية، بعدما أعلنت حكومة إسرائيل خلال العام الماضى معلومات تفيد بأن طائرات دون طيار استهدفت مواقع فى الجولان المحتل، وتم التحكم فيها من ذاك المطار. كما وزعت القوة الإيرانية قواتها ومستشاريها على كل من «مطار حماة العسكرى» و«مطار النيرب» فى حلب وجبل عزان بريف حلب الجنوبى، بالإضافة إلى قواعد «منطقة الكسوة العسكرية» جنوب دمشق، تتواجد فيها مستودعات أسلحة تخص «حزب الله» فى لبنان، وتحوى أيضًا مقرات قيادة وتحكم، تدير العمليات وانتشار الميليشيات فى جنوب سوريا.

لكن المعضلة الحقيقية أن وجود الميليشيات الإيرانية لا يقتصر على الجنوب والوسط وحدهما، فهناك تمركز وتوزيع استراتيجى يضمن لإيران الوجود بالنقاط الحاكمة، فى مجمل الخريطة والاتجاهات. منها على سبيل المثال ما هو فى أقصى الشمال الشرقى، فى مدينة «البوكمال» شرق دير الزور، وهى المدينة الحدودية التى تعتبر الممر البرى الذى يصل إيران والعراق. منذ أسابيع جرت هناك واقعة، فضلًا عن أنها استدعت إعلان الاستنفار الكامل فى صفوف الميليشيات، إلا أن لها دلالة كشف مثيرة لحجم التواجد الإيرانى فى تلك المنطقة وحدها. عندما فوجئت الذراع الاستخباراتية للحرس الثورى الإيرانى، بانتشار صور وخرائط تبيّن تفصيليًا أماكن تمركز تلك الميليشيات ومواقع مخازن أسلحتها بالمنطقة، ما دفع «قاسم سليمانى» لتكليف عناصر من ميليشيا «فاطميون» بمهمة مراقبة وكشف من يقوم بالتصوير وإيصال المعلومات، التى تخص منطقة البوكمال، ورصد مكافأة مالية لمن يرشد عمن يقوم بالعمل الاستخباراتى المضاد، الذى فضح على نحو لافت هذا التغلل كنموذج لمنطقة واحدة.

حددت الخرائط «١٢ موقعًا» تتنوع فيها المهام والاستخدامات، ففى الموقع الأول الذى يقع بحى «الجمعيات» هناك مقر لميليشيا «حزب الله» اللبنانى، وهناك ثانٍ بجواره مخصص لـ«حركة نجباء» الإيرانية. الموقع الثالث يقع على ضفة نهر الفرات مقابل بلدة الباغوز، يوجد فيه «١٥٠ عنصرًا» من ميليشيا «فاطميون» الأفغانية مع أسلحتهم الثقيلة، التى تتضمن راجمات صواريخ.

الموقع الرابع يستخدم مقرًا لميليشيات «زينبيون» الباكستانى، الموكل إليه مهمة القيام بالدوريات الأمنية فى منطقة البوكمال ومحيطها. الموقع الخامس يوجد فى قرية «سويعية»، والموقع السادس يتواجد فى ساحة الانتظار الرئيسية المغطاة لمدينة البوكمال، وفيه يجرى تخزين سيارات الدفع الرباعى المثبت فوقها مضادات الطائرات من عيار ٢٣ وعيار ١٤.٥٠. الموقع السابع فى حى «الجمعيات» تستغله ميليشيا «حزب الله» لتخزين الأسلحة الخفيفة والمتوسطة. والثامن فى ذات الحى يعتبر مقرًا استخباراتيًا تابعًا للحرس الثورى الإيرانى فى دمشق، يجرى استخدامه للتواصل مع الميليشيات الإيرانية فى العراق، ويعلوه برج إرسال يستخدم فقط من قِبل الاستخبارات الإيرانية. أما الموقع التاسع فيقع فى «شارع الهجانة» وتتخذه ميليشيا «النجباء» العراقية مقرًا لها ومستودعًا لأسلحتها الثقيلة بنفس الموقع. الموقع العاشر فى مواجهة التاسع بالضبط، توجد به «٤ راجمات صواريخ» وقناصون فوق الأسطح لتأمين محيط المنطقة المتواجد بها أكثر من مقر لميليشيات متنوعة.

ما جرى نشره وتداوله بكثافة فى المنطقة، يبدو بالفعل من خلال آليته ودقته، عملًا استخباراتيًا جرى من خلاله توجيه رسالة للميليشيات الإيرانية وقياداتها، بأن طموح التواجد فى تلك النقطة الاستراتيجية مستقبلًا غير الوجود، ولن يجرى السماح بتمرير المستهدف من هذا التمركز الممتد. فقد أنشأت إيران، فضلًا عن كل ما سبق، معبرًا حدوديًا جديدًا على الحدود السورية مع العراق، ليشكل ممرًا بريًا جديدًا باتجاه لبنان، حيث يجرى التخطيط لاستخدام هذا الطريق، فى عمليات النقل والتهريب التى تتضمن أسلحة وشحنات نفطية، بهدف الالتفاف على العقوبات الأمريكية المفروضة على صادرات النفط الإيرانية.