رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جمالك يا نيل


تغيرت سلوكيات المصريين كثيرًا فى السنوات الأخيرة.. وتغيرت الأخلاقيات كثيرًا فى السنوات الأخيرة.. لهذا أسباب، ولكن رغم كل هذا هى أم الدنيا وبنحبها.. لكن كلمة بنحب مصر لا تكفى.. بنحب مصر تعنى أن نحاول أن نغيرها للأفضل.. أن نعطيها بلا مقابل.. أن نحافظ عليها وعلى أرضها وشوارعها.. أن ندعو الآخرين ليصبحوا أفضل.. مصر تستحق الأفضل فى كل مجال وفى كل شىء.
أقول هذا لأن لدى بعض الناس، خاصة الشباب، سلوكيات وأخلاقيات فى حاجة إلى مناقشة هادئة وفى حاجة إلى حوار عقلانى.. ولكى تعود إلينا القيم والأخلاق لا بد أن نعمل على هذا، وأن نرفض السلوك الخطأ وأن نعظم الأخلاق العالية والأمانة والعمل والعطاء والأدب والاجتهاد والإبداع والابتكار والتفوق والعلم وكل القيم العريقة التى ميزت المصريين منذ فجر التاريخ، نحن أصحاب حضارة ٧٠٠٠ سنة، وهى الحضارة الأطول فى التاريخ ولا بد أن ندرك هذا، وأن تكون سلوكياتنا وأخلاقنا لائقة بحضارتنا.. أقول هذا لأننى تذكرت جمال مصر وجمال نيلها وأرضها وناسها الذين نشأنا بينهم، وتعلمنا منهم الأخلاق والقيم حينما رأيت مشهدًا منذ أيام لا يليق بمكانة النيل الخالد، ولا يليق بنا كمصريين.
لكن شباب اليوم لا يدركون أهمية النيل لمصر، ولا مكانته منذ فجر التاريخ.. حيث نشأت الحضارة المصرية العريقة على ضفافه، ويعتبر أحلى فسحة لشم نسمة هواء عليلة بالقرب منه، سواء أكان ذلك لأهل مصر أو لكل من يأتى إلينا.
وفى السنوات الأخيرة ومنذ يناير ٢٠١١ حدثت تغييرات كبرى عايشها الشباب وعاصروها، ورأوا أحداثًا جسيمة وعنفًا وإرهابًا وبلطجة ممنهجة، ما كان له أسوأ تأثير على عقولهم.. والحمد لله أننا الآن ننعم بالاستقرار والأمان، وأن لدينا أبوابًا مفتوحة على التقدم والازدهار.. ومن المؤكد أن هذا يتطلب استعادة أخلاقنا وقيمنا المفقودة لأسباب كثيرة.. أقول هذا لأننى توقفت أمام مشهد لا بد أن نقف عنده وقفة متأنية، لأنه لا يصح ولا يليق بأخلاق المصريين.
فبينما كنت عائدة مساء الجمعة الماضى بعد حضور افتتاح مؤتمر مهم فى القاهرة حول الكيانات المصرية فى الخارج، والذى تضمن مناقشات وأخبارًا مهمة عن المصريين فى الخارج.. وهذا موضوع يستحق أن أحدثكم عنه فى مقال مقبل إن شاء الله.. وحينما وصلت فى يوم استثنائى فى حرارته ومن طريق صلاح سالم وجدت نفسى وسط زحام خانق فى طريق لا تتضح معالمه.. كان المشهد غريبًا وكأن الملايين من أهل القاهرة والجيزة قد خرجوا جميعًا ليتجمعوا من غير موعد سابق، ما جعلنى أدقق النظر فوجدت أننى فى منتصف كوبرى عباس فوق نهر النيل الخالد.. لم أستطع رؤية النيل أو أتبين ملامحه الجميلة التى أعشقها، والتى جعلته مصدرًا للحياة ولاستقرار أهل مصر منذ القدم.. وجدت زحامًا غير عادى حيث تجمع الآلاف يمينًا ويسارًا وتلال من الكراسى البلاستيك على الأرصفة يجلس عليها الآلاف ووسطهم بائعو المثلجات وحمص الشام والترمس والذرة والذين بالكاد استطعت أن أراهم.
ورأيت مشاجرة عنيفة لشباب يعاكسون مجموعة من البنات.. وبعضهم خلع قميصه ليشتبك فى المشاجرة، وعلمت أن مجموعة من الشباب كانوا يعاكسون مجموعة من البنات فتصدت لهم مجموعة أخرى، ما أوقف الطريق وأعاق مرور السيارات فيه والأجرة والموتوسيكلات.. لكن الأمر المفزع فى المشاجرة هو هذا العنف الذى ذكَّرنى بأفلام العشوائيات التى يُنتجها السبكى ويقوم ببطولتها محمد رمضان للترويج للعنف والصوت العالى والفوضى، ما حول الكوبرى العريق إلى حالة من الفوضى العارمة، وما زاد المشهد قبحًا هو تلال القمامة الملقاة نتيجة إلقاء الأهالى بقايا مشروباتهم ومأكولاتهم.. ورغمًا عنى قارنت بين مشهد النيل الآن ومشهد النيل منذ ٢٥ عامًا، حيث كانت الكبارى فسحة جميلة للأسر المصرية تتمشى عليها لشم نسمة هواء فى حرارة فصل الصيف.
وكانت البنات والشباب يلتقون على جانبيه فى مشاهد حب عذرى برىء، ويأكلون الذرة والترمس وحمص الشام ببساطة وعفوية، كان الشباب أكثر أناقة وأكثر تحضرًا فى تعاملاتهم، وكانت المعاكسات ألطف وأهدأ ولم يكن التحرش معروفًا ولا العنف مستفحلًا بهذا الشكل القبيح.. ولا شك أن الزيادة السكانية وفقدان الأخلاق والقيم وأفلام العشوائيات والدراما الفجة كلها أسهمت فى هذا المشهد، الذى أحسست أنه ليس من طبيعة الشعب المصرى، الذى كان حتى وقت قريب أكثر طيبة وأكثر تحضرًا.. حدث بلا شك تغير فى سلوكيات وقيم الشعب بعد يناير ٢٠١١.. حدث تدهور فى الأخلاق وصعود للبلطجة والفوضى ومحاولات وخطط لتدمير المجتمع وإضعاف هويته وزعزعة قيمه العريقة.
وفى خضم هذا المشهد، تذكرت عبارة نعتز بها جميعًا ويعرفها العالم منذ فجر التاريخ حينما زار الفيلسوف الإغريقى هيرودوت مصر فى القرن الخامس قبل الميلاد فانبهر بمشهد النيل الخالد، ثم قال عبارته الشهيرة «مصر هبة النيل».. وقد يختلف المؤرخون حول ما كتبه هيرودوت عن مصر، لأنه كتب كتابه الثانى بعنوان هيرودوت يتحدث عن مصر، وكان يستقى أخباره مما رأى وسمع من الناس لكنه أيضًا قال هذه العبارة ذات المغزى المهم، حيث كان النيل مصدرًا دائمًا للحياة والرى والزراعة وقامت الحضارة المصرية الفرعونية على ضفافه، وما زال معظم سكان مصر يعيشون حول ضفتى النيل.. إلا أننا فى حاجة أيضًا إلى إعادة ترتيب قيمنا العريقة والعودة لأخلاقنا المعروفة التى اشتُهر بها المصريون عبر تاريخهم منذ العصور الفرعونية.. وأن نرجع للنيل جماله وبهاءه وهيبته القديمة.
ولا بد أن يدرك الأهالى وكبار كل أسرة أن تربية أبنائهم ضرورة وأساس لتتقدم مصر إلى الأمام بشكل يحفظ قيمها ومكانتها وهويتها ولا بد أيضًا أن يسهم التعليم فى التوجيه والتوعية نحو الأخلاق النبيلة والمثل العليا وتمجيد التلميذ المهذب والنبيل.
لقد اختفت جدعنة المصريين أو كادت.. لكنها لا تزال إحدى السمات التى كانت تُميزهم فى ماضيهم القريب، لا بد أن نستعيد كل القيم النبيلة فى تعاملاتنا.. وسلوكياتنا.
جمالك يا نيل لا بد أن يعود.. بالقانون ممكن أن يعود.. أو بفرض غرامات على من يُشوهون صفحته، ومن يرمون بالقمامة فى عرض الشارع المصرى، ومن يتركون الشوارع بهذه البقايا المخجلة التى تشوه منظره الخلاب أو من يتجاهلون أن مصر لا بد أن تكون نظيفة وبهية لمن يزورها ولمن يعيش فيها.
أيضًا تذكرت قصيدة جميلة للراحل صلاح جاهين شاعرنا الكبير، الذى أعتبره شاهدًا على عراقة مصر، وصوتها الجميل الباقى عبر الزمان.. حيث قال:
جرب كده تسهر ولو لوحدك.. على ضف نيلها وحبها
جرب تشوف بنت حلوة.. مع شاب واقف جمبها
بيحبها شايل فى قلبه.. هموم الدنيا كلها.
وبرضه بيحبها هأفضل لمصر أقول وأعيد.. أنا أصلى عاشق أرضها وعجبى
انتهى كلام صلاح جاهين.. وأنا أضيف عليه الآن أن حب مصر لا ينتهى من القلب أبدًا.. إنه فى القلب والوجدان.. لكن من يحب مصر لا بد أن يعمل من أجلها، وأن يتحلى ببعض الأخلاق والقيم ليكون جديرًا بها.. إن جمالك يا نيل لا بد أن يكون هدفًا لنا، وجمالك يا نيل باقٍ رغم أنف الزحام والفوضى.