رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفئران

جريدة الدستور

"كارثة لو صح الخبر".. ظلت هذه الجملة تجول فى خاطر زوجة الشيخ علام وهى تسترجع بذاكرتها- كمن يسترجع مشهدًا فى فيلم سينمائى- الذى حدث فى الجلسة النسائية التى تقام عادة كل عدة أيام بتجمع الجارات فى بيت إحداهن للغو والثرثرة، فكان أمر الساكنة الجديدة حديث الساعة بالنسبة لهن ولنساء القرية كلها خشية على بيوتهن من الخراب وعلى أزواجهن من الافتتان بها، وكل واحدة منهن كانت تتحدث فى تباه عن حب زوجها لها وأنه من المستحيل أن يقع فى غرام سواها.

كانت زوجة الشيخ علام أكثرهن تباهيًا بهذا، وأضافت إلى حديثها أن زوجها ليلة أمس قال لها بمداعبة إنه يريد طفلًا جديدًا، وقالت إحداهن معترضة حديثها وثقتها: "فلتتوقفى عن هذا.. لقد رأيت زوجك ينظر إليها بشبق وهى عابرة وسهام عينيه تخترق كل جزء منها حتى غابت عن النظر"، ففرت غاضبة من هذا الاتهام.

الرجال الذين يتجمعون يوميًا بعد صلاة العشاء فى الساحة الكبيرة القريبة من النيل لسماع التقرير اليومى عن البلدة وتدخين الحشيش للمتعة أحيانًا وتناسيًا للحمل المتزايد على أكتافهم أحيانًا أخرى، أصبحوا فى حالة من الصمت والشبق العام بعدما جاءت تلك الساكنة الجديدة إلى البلدة، شاردين فى جمالها المتوهج، وكلما قضى أحدهم وقتًا ممتعًا مع زوجته تخيلها هى. يروح أحدهم عن نفسه ويقول: هنيئًا لمن سيظفر بها وتذوب فى فمه كقطعة السكر.

فيقاطعه الشيخ قائلًا: أستغفر الله، غضوا الأبصار، واستعيذوا من الشياطين، ثم يقول أحدهم مخاطبًا الشيخ بلطف ليصرف الحديث: على أى مذهب تكون وأنت لا تعرف اتجاه القبلة؟ فهمَّ الشيخ علام بالرحيل خشية من أن يقع فى المصيدة ويكون أضحوكة المجلس متحججًا بالنوم.

ظلت زوجة الشيخ علام تنتظر قدومه لتخلع عنها ثوب الرقة الذى طالما ارتدته أمامه لتنتقم كمن مات قلبه وتقبض عليه لتنهال عليه بالتساؤلات كمن يقبض على فأر استفزه وينهال عليه بالضرب، بعد ليلة عبثية طويلة من الفوضى والقلق والخوف الذى يلتهم النعومة الأنثوية.

ولكن للفئران مهمات أخرى غير تخويف الجنس الناعم، كإعمار البيوت الخربة المهجورة، أيضًا لدخول البيوت من ظهورها مبرر منطقى، كالتفتيش عن قطعة من اللحم هنا أو شريحة من الجبن الشهى هناك لإطعام قطيع منها بعد معاناة من الشح العام الذى أصاب البيوت والشوارع وحتى صناديق القمامة.

خرجت من نوبة غضبها على صوت مناد يشيع خبرًا، يقول: "ظفر بها الشيخ وهرب"، وما فتئ صوته الهائل يتردد فى الفضاء حتى كاد الصدى ينتهى إلي البلاد المجاورة، تجمع الناس مسرعين تابعين صوت المنادى، منتبهين للعرض غير المألوف.

امرأة الشيخ علام، مستهمة من هول الصاعقة.. كأنها من وحشتها تنادى المرأة، تقول: انظروا إلى! أرأيتم ما حل بى؟ هل رأيتم حزنًا أشد من حزنى؟

بينما كان الجمع مشدوهين باحثين فى الوجوه، وقد غشت عليها كآبه ربداء كانوا يتبادلون النظر في أين يعتريها الخجل وكأنها تفتح ما يختلج فى عقولهم، وسرعان ما يحولون بأعينهم دفة النظر فى اتجاه البراءة، وهم يتساءلون كيف ومتى هرب الشيخ العجوز برفقة الحسناء؟

واندفع بعضهم يسبه ويلعنه، وعزم البعض الآخر على قتله، وعم الهرج والمرج والصياح، وفجأة صمت الجميع أمام صوت أزيز يتدفق خفيفًا من أسطح المنازل ومن التجاويف الضيقة فى الحوائط الطينية، راح الصوت يعلو ويعلو حتى غطى المكان، فصمت الجميع يراقبون مصدر الصوت، كانت أفواجًا هائلة من فئران ضخمة سمينة، تخترق المكان من كل الشقوق، وتمرق من بين أرجلهم فى سرعة عازمين على الفرار، صار صوتهم عاليًا حتى ملأ المكان، وعندما أعادوا النظر إلي بعضهم، رأى كل واحد منهم أن الآخر له رأس فأر كبير.