رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النافذة

جريدة الدستور

تبتسم لى وتقول: دعنى أسمعك حكاية تلك الحجرة.. هل تصدق أن زوجى «أبوكمال» لم يفعل قبل وفاته إلا أن زرع تلك الحجرة بساعدية خلسة من وراء عيون الحكومة


ذات يوم قريب بقدر خطواتها القصيرة، قررت العجوز أن تفتح النافذة.. تتمنى لو تجلس خلفها كما هى معتادة، تمنعها الآن أمطار الشتاء، وطرطشات المياه التى حتمًا تبلغ وجهها المحاط بتلفيحة صوفية بالية، ولكنها تكفى لأن تحمى رأسها وتدفئ قفاها.
فلما وصلت منحنية الظهر مطاطأة الرأس ابتسمت، ربما حاولت الابتسام وقد تعلقت بـ«السبليونة»، وهمدت لتلهث فى هدوء وكلها حواس تسعى لأن تحقق ما راودها منذ قليل. تشجعت، سحبت شهيقًا، دفعته زفيرًا معلقًا برنين حنجرة مبحوحة، فكان صوتًا لا أعرف وصفه.
فتحت خصاص (شيش) النافذة، نظرت فيما احتوته غبشة المغربية، لم تر كعادتها إلا بما تسمح به قامتها التى بمستوى حافة النافذة الملتصقة بأرضية الحارة.. فلا ترى إلا نعال السائرين.
تبتسم لى وتقول: دعنى أسمعك حكاية تلك الحجرة.. هل تصدق أن زوجى «أبوكمال» لم يفعل قبل وفاته، إلا أن زرع تلك الحجرة بساعدية، خلسة من وراء عيون الحكومة، ومع شفقة لأهل الحارة، رص الحوائط وشيد السقف بين منزلين، بعدها خلفنا «كمال»، بعد أن تأخر اﻹنجاب لسنوات طويلة.
تعلمت العجوز «أم كمال» أن تسرى عن نفسها بملاحقة نعال الرجال وسيقان النسوة، خلصت إلى أنها تستطيع أن تعرف الرجال من نعالهم والنساء من سيقانهن!
النعال مع الرجال تعرف خصالهم وأحوالهم المالية؛ بينهم من لا يشترى حذاءً مكتفيًا بتلك الأحذية الكوتشوكية التى تباع فوق بعض الطرقات، ومنهم من يكتفى بالصندل صيفًا أو شتاء، ومعهم من يستخدم الأحذية العادية أو ذات الرقبة أو تلك التى لها الكعب المناسب والتى لها كعب يُطيل صاحبه خمسة سنتميترات. أما سيقان النسوة لا تتردد معها أن تعلن عن خبرتها فى التعرف على صنوف النسوة وأحوالهن المزاجية.
.. اليوم لم تنشغل إلا بما شعرت به منذ الصباح الباكر.. منذ أن لمحت السحابات الكثيفة المتلاحقة تعدو بعيدًا فى السماء الملبدة هناك.. بينما كومة من الرذاذات معلقة حول المصباح المضىء. تقهقرت لخطوتين إلى الداخل، فاختفت السحب وإن بقيت هالة مصباح الشارع، لوت رقبتها، توجهت إلى سماء غرفتها وقالت:
«يا رب لا تجعلها ممطرة.. ولا تحرمنى من سكان الحارة.. هم مسرتى وسلوتى»
لا تقوى على الوقوف طويلًا، لكنها تظن أن الله يحب سماع الدعاء من عباده العجزة وهم على أقدامهم يقفون. عادت وقررت أن تختبر دعاءها، اقتربت من النافذة، ألصقت خديها حتى حجزتها الأسياخ الحديدية وحفرت أخدودًا فوق عظمتى الخدين.
سحبت شهيقًا عميقًا كعادتها، بأنفها تجيد التقاط روائح أرضية الحارة المبتلة وسكانها.. قادرة هى على قبض الروائح المنهارة تحت فتحتى منخارها، فتلوى شفتها العليا تعيد اختبار حنكتها بسحب الشهيق، وتغمض العينين وجام انتباهها فى اختبار قدرة أنفها.
نجحت فحزنت، أكدت الأنف ما رأته العينان، غيرت من فكرتها القديمة حالًا، فقررت أن تتوسل إلى الله راكعة.. أكيد أن الله لا يسمع إلا أصوات الراكعين.. فدمعت وهى راكعة: «يا رب إن أردت، فليكن هواءً نديًا»
ارتمت على الأسياخ الصدئة، رمت أذنها اليمنى ثم اليسرى وهى مغمضة العينين، قابضة على أنفها بسبابتها وإبهام يدها اليمنى ثم اليسرى.. انتبهت. انهارت أصوات الأقدام الزاحفة الثقيلة للرجال، ونقرات أحذية الأطفال التى تعدو، وإيقاعات الخطوات النشوى لبعض النسوة.
استدارت، فتحت شفتيها، أفرجت فكيها، أطلقت لسانها.. فمذاق الهواء الندى تعرفه وخذلها اللسان، فعادت ونطقت بصوت واثق أن أفضل الدعاء لله والمرء ساجد معفر وجهه وأرنبة أنفه، ودعت: «يا رب وهذا قدرك.. أن تجعله رذاذًا لا يشغل النسوة عن وجهتهن، ولا الرجال عن خطواتهم القوية، ولا الأطفال عن لهوهم بجوار النافذة».
بأسرع من كل المرات السابقة، بلغت الحاجز الحديدى للنافذة، أطلقت ذراعيها، تركتهما معلقتين بفراغ الشارع وقد أفرجت كفيها وأصابعها.. كومة غبية من مياه الأمطار الغزيرة تتعلق براحتيها، حاولت أن تتشكك فيما رأته بعينيها وسمعته بأذنيها وتشممته من روائح أرضية الحارة المبتلة.. بقيت على يقين أن دعاءها مستجاب.. فتتابع بصوت مسموع: «لن أبرح النافذة حتى تسمعنى يا الله!».