رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سلمان الدوسري يكتب.. العزلة تخنق تركيا

جريدة الدستور

مجرد مراجعة سريعة لعلاقات تركيا الخارجية خلال العقد المنصرم، توضح بجلاء كيف أن بعض الدول تخسر تحالفاتها وعلاقاتها المميزة وأصدقاءها بيدها، ثم تجد نفسها فجأة وحيدة بلا أصدقاء، من ألمانيا مرورًا بهولندا واليونان والنمسا وقبرص وفرنسا والسويد والدنمارك وليس انتهاءً بمصر والسعودية والإمارات والبحرين والولايات المتحدة الأمريكية.
تسببت السياسات التركية المتهورة، والقائمة على أساس برنامج شعبوى يمينى يقوده الرئيس رجب طيب أردوغان، فى ابتعاد غالبية أصدقاء تركيا السابقين عنها بمسافات شاسعة، باستثناء قطر وإيران أقرب الحلفاء المتبقين لها، وهما بالمناسبة تعانيان من العزلة أيضًا، وكأنه كتب على المعزولين أن يتحالفوا معًا ويُعزلوا معًا.
لا أسهل من تعداد شىء من خطايا تركيا السياسية، على سبيل المثال: دعمها اللا محدود لجماعة «الإخوان المسلمين» المصنفة إرهابيًا فى الكثير من دول العالم، السماح لأعداد هائلة من النازحين والمهاجرين من سوريا والعراق وغيرهما، بالسفر بطريقة غير شرعية إلى أوروبا طمعًا فى ابتزاز أوروبا، استهداف السعودية والإمارات بشكل فج دون مبرر، إنشاء قاعدة عسكرية فى قطر باستغلال مقيت للأزمة الخليجية، الاستخدام السياسى البشع والرخيص لقضية مقتل جمال خاشقجى، التذاكى فى الجمع بين العضوية فى الناتو وشراء الأسلحة الروسية المتطورة، دعم الجماعات المتطرفة فى سوريا.
ولولا أن مساحة المقال محدودة لما توقفنا عن تعداد المزيد من السياسات الخارجية التركية المتهورة، مما تسبب فى عزلها بشكل يثير الأسى، والنتيجة أنها لم تعد تملك أى حلفاء أو أصدقاء حقيقيين فى الشرق الأوسط أو خارجه، وغدت وحيدة فى وجه أزمة سياسية تتعاظم من جهة، وأخرى اقتصادية غير مسبوقة من جهة أخرى.
مشكلة أردوغان الكبرى أنه يريد رسم صورة الدولة «الأردوغانية» على معالم كامل بلاده، مما جعل الدولة هشة من الناحية السياسية وفى حالة توتر مستمر مع الآخرين؛ فالعزلة ليست سوى واحدة من نتائج الأزمة.
أما اقتصاديًا فالكارثة قادمة لا محالة، حيث يعانى الاقتصاد التركى كما لم يعانِ مسبقًا، فهو فى حالة ركود منذ نهاية عام ٢٠١٨، والتضخم يبلغ نحو ٢٠٪، والغذاء والدواء أصبحا أكثر تكلفة بكثير، وتتعرض الليرة لضغوط شديدة، كما يتقلب سعرها مرارًا وتكرارًا مع خسائر مؤقتة تبلغ ٢٪ يوميًا.
أما الزلزال القادم فهو أنه على تركيا تسديد نحو ١١٨ مليار دولار كقروض بالعملات الأجنبية خلال الـ١٢ شهرًا القادمة، وخسرت السياحة الخليجية بعد أن أصبح السياح يشعرون بالخطر فى المدن التركية، وأعرضوا عنها وفق تقارير تركية رسمية.
هذا كله يثبت أن أردوغان يتغافل أن بلاده بكل بساطة دولة متنوعة ديموغرافيًا ومعقدة سياسيًا، من أن يتمكن شخص واحد من رسم معالمها على صورته الخاصة. وإذا كان الانهيار الاقتصادى السبب الذى أتى بأردوغان إلى السلطة عام ٢٠٠٢، فربما انهيار اقتصادى قادم قد يعنى نهاية حكمه.
بالطبع العزلة لم تبدأ اليوم، فلا مفر من استذكار الانقلاب الفاشل الذى وقع فى ١٥ يوليو ٢٠١٦، بعد أن اختار أردوغان- الذى غدا أشد استبدادًا بشكل تدريجى من خلال لعبه دور «المتسلط المضطهَد»، كما يصفه سونر جاجايتاى فى كتابه «السلطان الجديد»- مسارًا مختلفًا، عندما لم يكتفِ فقط باستخدام سلطات حالة الطوارئ التى منحت له ملاحقة مَن يتهمهم بأنهم مدبرو الانقلاب، وبلغ عددهم عشرات الآلاف، بل شرع أيضًا فى شن حملة أوسع نطاقًا بكثير ضد جميع المعارضين. هذا المسار الذى اختطه كان على المستوى الداخلى، أما خارجيًا فاستخدم نظرية المؤامرة فى خطابه المتكرر بين مناصريه، باعتباره أكثر زعيم فى العالم يلقى كلمات وخطبًا... فأوروبا «الصليبية»- كما وصفها- تتآمر عليه، والولايات المتحدة تتآمر أيضًا باستضافتها فتح الله كولن، والسعودية والإمارات ليستا بعيدتين عن ذلك، وحتى شعبه يتآمر عليه.
ألا يوجد حاليًا نحو ٢٦٠ ألف معتقل منهم ٤٤ ألف متهم بالإرهاب؟، حيث وجد أردوغان فى الخطاب الشعبوى التآمرى قبولًا لدى أوساط مؤيديه، الذين بالمناسبة لا يشكلون سوى نصف سكان البلاد فقط، بينما النصف الثانى عبّر عن موقفه بدقة فى الانتخابات البلدية الأخيرة، التى خسر فيها حزب العدالة والتنمية أهم وأكبر ثلاث مدن فى البلاد، وكذلك وضحت شعبيته فى استفتاء تعديل الدستور فى ٢٠١٧ بعد أن وافق عليه ٥١.٥ فى المائة، أما البقية فرفضته.
كل ذلك يسلط الضوء على واقع مؤسف بشأن البلاد أنها بالفعل تتخبط فى أزمة كبيرة، وأن العزلة ليست إلا رأس جبل الجليد الذى تعيشه، وغدت الدولة منقسمة بشكل كبير بين معسكر محافظ يمينى من القوميين الأتراك مؤيد لأردوغان، وآخر مكون من جماعات من العلمانيين واليساريين والليبراليين والأكراد مناهض له، أما أردوغان فليس لديه إلا المؤامرة شماعة يعلق عليها جميع مشاكل بلاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فى الوقت الذى تزداد فيه العزلة وتختنق بها البلاد، وكل العالم يرى هذه الحقيقة إلا رجل واحد يحلم بدور السلطان حتى لو كان عرشه من ورق.
نقلًا عن «الشرق الأوسط» اللندنية