رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إما القهر.. وإما مصر


خدعوك فقالوا إن سودانيين هتفوا «إما النصر.. وإما مصر». ولو صدقت مزاعم البعض بأنهم سمعوا أو قرأوا هذا الهتاف، أو هتافات شبيهة، فى المظاهرات التى تلت الإطاحة بعمر البشير، فإنك تظلم الأشقاء لو حسبت مرددى تلك الهتافات عليهم، لأسباب كثيرة، أبرزها أن المعسكر الذى يرى النصر نقيضًا لما حدث (ويحدث) فى مصر، لا علاقة له بشعب السودان أو غيره، وإنما مجرد لقطاء، لا وطن لهم، صنعتهم قوى الشر، لتستخدمهم فى السيطرة على دول المنطقة.
بات فى حكم المؤكد أن التجربة المصرية أسقطت مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، الذى كان إحدى أهم الخطوات نحو تحقيق حلم الإمبراطورية الأمريكية، أو صياغة ما سُمِّى بـ«القرن الأمريكى»، والذى حاولت ثلاث إدارات أمريكية من إدارة كلينتون التى رفعت شعارات نشر قيم الديمقراطية والليبرالية، إلى إدارة باراك أوباما التى رعت، ساندت، وموّلت ما يوصف بـ«الربيع العربى»، وبينهما إدارة جورج بوش الابن، التى أطلعت رجب طيب أردوغان، على مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، خلال زيارته الولايات المتحدة فى يناير ٢٠٠٤، وأوضحنا كيف كان رئيس تركيا الحالى، رئيس وزرائها السابق، أحد من أعطوا انطباعًا للإدارة الأمريكية بأن فضاء منطقة الشرق الأوسط يمكن تشكيله على أى وجه، وبأن الدول العربية لم يعد أمامها غير رفع الرايات البيضاء.
هذا المشروع، الحلم أو الوهم، تجاهل أو لم يضع فى حسبانه تغير موازين القوة ومنظومة القيم الضابطة للعلاقات الدولية، وتجاهل أيضًا أن مشروع التوسع الأمريكى الذى انطلق بعد الحرب الباردة، انتهى عمليًا، وأن تجارب ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تعد قابلة للاستنساخ. وأن الولايات المتحدة ما عاد بإمكانها تطبيق استراتيجية التوسع، بالسيطرة على المناطق المضطربة أو المتوترة، بعد أن صارت تلك المناطق محل نزاع بينها وبين قوى أخرى صعدت على الساحة الدولية، واستطاعت أن تضع قواعد جديدة لمنظومة دولية موازية، وأن تتمدد شرقًا وغربًا لتملأ أى مساحة تتركها الولايات المتحدة، أو يتم إجبارها على تركها.
هنا، تكون الإشارة مهمة إلى أن المعسكر الغربى أو ما يُوصف بـ«العالم الحر» كان يسيطر على ٦٠٪ من حجم الاقتصاد العالمى سنة ١٩٩٥، وأن هذه النسبة ظلت تتناقص حتى صارت أقل من ٤٠٪، والتناقص مستمر، بعد اكتشاف زيف ارتباط اقتصاد السوق الحرة بالديمقراطية التعددية، وبانتقال قلب اقتصاد العالم تدريجيًا إلى خارج المنظومة الليبرالية الغربية، أو ما يُوصف بالعالم الحر. وبهذا الشكل، لم تعد الديمقراطية على النمط الغربى واقتصاد السوق متلازمين بالضرورة، خاصة بعد أن أسقط النموذجان الصينى والروسى الاعتقاد الذى ساد طويلًا بأن الليبرالية الاقتصادية ستقود حتمًا إلى الانفتاح السياسى.
مؤشرات كثيرة تقول إن العالم سيشهد خلال السنوات القليلة المقبلة تقلبات سياسية واقتصادية، ستجعل الصين وروسيا تجتذبان إلى مدارهما معظم دول شرق وجنوب شرق آسيا، أو نصف الكرة الأرضية تقريبًا. وربما لهذا السبب، أو انطلاقًا من تلك المؤشرات، تتجه العلاقات بين الدولتين، روسيا والصين، بقوة نحو الشراكة الشاملة، سياسيًا واقتصاديًا، بعد قفزة كبيرة حققتها علاقات البلدين العسكرية خلال السنوات الأخيرة. ومع النشاط المشترك للدولتين، روسيا والصين، فى المجموعات الإقليمية المختلفة التى ترتبط بهما. والطريف، هو أن واشنطن لعبت دورًا أساسيًا، فى تعزيز التقارب بين موسكو وبكين ووضعتهما أمام حتمية الرد المشترك على التهديدات التى أطلقها الرئيس الأمريكى واستراتيجية العقوبات والحرب التجارية مع الطرفين.
مع التقارب المصرى الروسى، كان هناك أيضًا تطور كبير فى التعاون بين مصر والصين، التى زارها الرئيس عبدالفتاح السيسى، للمرة الخامسة فى سبتمبر الماضى، للمشاركة فى منتدى «الصين- إفريقيا»، إحدى أهم الفعاليات الاقتصادية والسياسية التى تعكس الاهتمام الصينى بالقارة الإفريقية، وتهدف إلى تكثيف ودفع العلاقات الصينية مع دول القارة السمراء، ومصر على رأسها. مع ملاحظة أن اتفاقية «الشراكة الاستراتيجية الشاملة»، نقلت الشراكة القائمة بين البلدين إلى مستوى جديد، بالإضافة إلى كون مصر شريكًا حضاريًا وتاريخيًا للصين فى مبادرة «الحزام والطريق» التى تمثل إعادة لإحياء طريق «الحرير»، وهى المبادرة التى تتجاوز بعدها التجارى لتشمل عددًا آخر من المحاور الثقافية والحضارية التى تهدف إلى تحقيق الترابط بين الشعوب، وهى الأهداف التى طالما أيدتها مصر وسعت إلى تعزيزها.
الخلاصة، هى أن قوى الشر، استغلت «أو صنعت» الاضطرابات والتوترات فى دول المنطقة، لتتمكن من السيطرة عليها. ولما تلقت هزيمة قاسية فى مصر، أطلقت اللقطاء والعملاء والبلهاء، ليرددوا مثل تلك الهتافات، التى ترى النموذج المصرى معادلًا للهزيمة، بينما أكد الواقع «ويؤكد» أنه النصر بعينه، وأن الهتاف الأنسب هو: «إما القهر.. وإما مصر».