رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تلك الغربة التى يصنعها الموت



غسلته كما علمتنى يا أبى.. سخنت الماء إلى الدرجة التى يحبها ويتحملها جسده، تحسستها كما كنت أتحسسها، وأنا أملأ البانيو لحمامه الأسبوعى بعد الحلاقة، فتأكدت أنها فاترة وكنت واثقة من طهرى، فلا حيض بعد انقطاع الدورة الشهرية لوقت طويل.
أحضرت الماء الدافئ، ليّنت أطرافه، مسدتها، استخدمت ليفته. بدأت برأسه ثم وجهه ويديه ثم جنبه الأيمن ثم الأيسر وقدميه: اليمنى فاليسرى، ثم غسلت الجسد كله بالماء، ولم أنس أن أضغط على بطنه، لكن «فؤاد» كان قد عاف الطعام قبل وفاته، أردد وأنا أغسل الذراع اليمنى، اللهم أعطه كتابه بيمينه وحاسبه حسابًا يسيرًا، عند غسل اليسرى، اللهم يسر ولا تعسر، اللهم حرم شعره وجسده كله على النار، اللهم ثبّت قدميه على صراطك المستقيم.
كم من الوقت مضى قبل أن يخلع ملابسه أمامى؟
يدخل الحمام بملابسه كاملة، لا يخلع سوى الروب، يضعه على الكرسى المجاور لباب الحمام.. وجود حمام فى نفس غرفة النوم كان أول ما أثار انتباهى فى البيت الكبير، البنت التى أعرفها تقضى حاجتها فى الخلاء، بيوت المتيسرين هى التى تحوى الكنيف، والماء القليل يجعل له رائحته الخاصة، وهى رائحة بكل الأحوال لا تغرى بوجود الحمام فى البيت، فما بالك بحجرة النوم. لكن حمام السرايا معطر دائمًا، وما ورد فى ذهن البنت التى أعرفها حين دخلته للمرة الأولى: إنه أحسن من حجرة الضيوف عند العمدة.
يأخذ حمامه من الدش، يراقبنى وأنا أحاول النفاذ إليه والاقتراب مما تحت الجلد. مرات كثيرة ولا يكتمل اكتشافى له، المرة الوحيدة عندما غسلته. جسده مستسلم لدفء أصابعى أملأ كفى بزيت الورد، يتلألأ الزيت الذهبى بابتسامات عشرات العذارى، من أجلك يجمعن الورد الهندى والدمشقى والجورى، قبل شروق الشمس، تنقع البتلات وتقدمه لى الصبايا، أدهن به جسمك.
أجهز ثوبك الأخير، أعطره بكل العطور التى تحب، وبنفس ترتيب استخدامك لها طوال اليوم.
القميص الأول رداء طويل من الكتان، ليست به أية تفصيلات، يناسبه عطر يحتوى على الياسمين، كى يكون صباحك منتعشًا ونشطًا.
يليه الدرج الأول من قماش أبيض يشبه الشاش، عطر «سيمار» يعطيك الإحساس بالأمان فى رحلتك الطويلة.
ثم الدرج الثانى من قماش الدبلان الأبيض. وسط النهار، بعد الظهر تستخدم عادة عطر «الأورنجا».
أضيف الدرج الثالث: القطنية. عطر «كوول ووتر» للحظات الصفاء والسكينة. والدرج الرابع والأخير من الكشمير. ما ستواجه به الآخرين، دائمًا ما كنت تبدو لى شامخًا، عظيمًا، مسيطرًا، وستؤكد ذلك مع عطرك المفضل «يانجان».
وسأكتفى أنا بزهرة التمر حنة فى يدى.
من بين ملابسى، أخرج قماشة بيضاء، بها حبيبات ناعمة ملساء، لونها أحمر داكن، أشعلها، فيحترق المسك الذى ادخرته لهذا اليوم، وتتصاعد رائحة نفاذة مع لهب أبيض، يظل يتراقص أمام عينىّ، وتنفذ رائحته إلى خياشيمى وتسكن هناك، أستدعيها كى تعيد أمنى وتهدهد روحى. فى المبخرة تتفحم قطعة المسك، ما تبقى منها فى يدى حبات فحم إسفنجى وملمسه الرملى يتفتت بين أصابعى ويتلاشى كما تلاشت روحك، دون أمل فى استرجاعها.. هل لى أن أحاول؟ أتمدد على جسدك، دافئًا كما كنت دائمًا، أضغط عليك بجسدى، أستحث خلاياك أن تتحرر من أغلالها الدائرية، أرتفع قليلًا قليلًا، أعود مرة أخرى أضغط ثانية، أتوسل أن تحطم روحك قيود الموت وتهرب من سلاسله، أرتفع قليلًا قليلًا، أعود ثالثة أبتهل أن تعود روحك من خلالى، وتصحو من نومك، لكنه يراوغنى.. يقترب موعد صلاة الجمعة، ينهض من سريره، يجلس بين يدى الحلاق. أتأمل صورته التى أعطاها لى حديثًا ووضعتها فى إطار فضى على الكومودينو المجاور لناحيتى من السرير.. صورة التقطتها عدسة المصور فور تخرجه فى كلية الحقوق، ثبتت هذه الصورة فى ذهنى، أنظر إليها فأشعر أنها لابن ذاهب إلى «الجهادية» وسوف يعود. نادرًا ما أتذكر صورته الأخيرة وشعره الأشيب يجلل رأسه، شعره الذى لم ينحسر عن جبهته سنتيمترًا واحدًا، شعره التام الكامل يبعث الثقة وسوالفه التى ستتغير ظهورًا واختفاءً، بناءً على نصيحة الأسطى «على الحلاق» الذى يزوره كل جمعة قبل الصلاة.
سينادى الآن بصوته الآمر:
- الحمام جاهز يا فاطمة؟
لا. لقد تغيرت الصيغة ونبرة الصوت. فعامان كاملان يكفيان لأصبح ماهرة فى التقاط حركة شفتيه وهو يهمس برقة أثيرية ومحبة: الحمام جاهز.
يجدنى على رأس السلم فور انتهاء الحلاقة، وهو ممسك بالكرة الحديدية التى تزين مقدمة الدرابزين الخشبى وإحدى ساقيه على أول السلمة والثانية لم ترفع بعد، وبمرح يجعلنى أتمنى تأخير صلاة الجمعة للأبد. فأهز رأسى:
- طبعًا.
وأخطو فى الممر الطويل المؤدى إلى غرفة النوم، وقبل أن أفتح باب حجرتنا يكون قد لحق بى، فيضمنى من الخلف، وألتفت إليه لأقبل رقبته، تصعد شفتى إلى ذقنه ثم أحك خدى بخده:
- إيه أخبار الحلاقة؟
- حرير.
ويفك لى حزام الروب الساتان..
بعدها بسنوات طويلة قالت لى ابنتى:
- لا يجوز. بمجرد موته أصبح غريبًا.
من رواية «استقالة ملك الموت»