رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من المهمشين وضحايا العنف يخرج الإبداع.. هكذا غيّر جون ميلاد السلوك بالفن

جون ميلاد أثناء تكريمه
جون ميلاد أثناء تكريمه من الرئيس السابق أوباما

كرمه الرئيس أوباما ووصفه بـ"المستقبل" 

بصعوبة أقنعت مجموعة من السوريات اللاجئات الهاربات من ويلات الحرب، صديقتهم المقيمة في مصر، بحضور ورشة عمل لم تكن تعرف تفاصيل عنها سوى أنها عن الفن؛ استجابت لهن وحضرت كنوع من إرضاء فضولها، وكانت محملة بأفكار كراهية لم تنجح في اخفاءها عن الحاضرات أو منظمي الورشة، أما البداية فكانت قطعة منحوتة من الصلصال صنعتها "أسماء" كتعبير عما تفكر به "الشخص الكافر الذي سيسود الله وجهه يوم القيامة".. هذا ما وصفت به منتجها النهائي.

 

قبل عدة أعوام، بدأ جون ميلاد مؤسس فرقة "ولسه" المسرحية، العمل على نقل ما تعلمه من أنواع الفنون إلى الشارع، ولأن اهتمامه الأول كان الإنسان، فكر في كيفية تحسين السلوكيات ورفع درجات وعي الأشخاص من خلال النحت، المسرح، الغناء، الرقص، وكل ما تعلمه من كليته "الفنون التطبيقية" فور تخرجه عام 2002.


"استغفر الله العظيم.. استغفر الله العظيم" تدخل السيدة "أسماء"، التي تبلغ من العمر 52 عاما والقادمة من ريف دمشق، إلى القاعة المقرر بها تنظيم ورشة دعم نفسي بالفن للاجئات السوريات المعنفات أسريًا، في منطقة السادس من أكتوبر بالقاهرة، وبمجرد وصولها لا تكف عن التمتمة بكلمات لا يفهم منها سوى القليل، بعضها استغفار أو استعاذة من الشيطان، كما أنها تتفاخر بقتلها مع زوجها 5 رجال من مؤيدي نظام بشار الأسد في سوريا، ومع ذلك تظل منتظمة بالحضور.

  

"الفن في مصر مرتبط باحترافه فقط، والعمل به، أنا لا أريد إنتاج ممثلين أو فنانين تشكيليين، لكن أريد نقل ما تعلمته للمهمشين والذين لا يجدون المساحات التعبيرية عن أنفسهم، فالفن هو الخير والسلام، والقدرة على تغيير النفوس التي اعتادت على ارتكاب الحماقات، كما أنه شفاء لمن يمارس ضدهم العنف". هكذا وصف "ميلاد" ما يقدمه خلال ورش العمل التي يحضرها الكثيرين من المهمشين والناجيين من الحروب في بلدانهم.

 

يجول جون مع المنظمات الدولية التي تدعوه لمشروعات في المحافظات والمناطق النائية بالصعيد جنوبه وشماله، والأرياف، ومختلف أنحاء القاهرة، يتجول مع فريق من المتطوعين حاملين معهم أدوات فنية بسيطة، إن لم تكن متوفرة بالساحات التي تستضيفهم فلديهم البديل من الصلصال والألوان والفرش.

 

يقول: "تعلمت من مجالي عدم التوقع، فإنتاج الأشخاص البسيطة يدهشني كل مرة، ويؤكد لي أن الإنسان بطبيعته خير وطيب، كما أن الأماكن النائية والفقيرة ما هي إلا حاوية كبيرة لكتل من الإبداع البشري".

 

ويروي جون عن المواقف المؤثرة التي واجهها: "في مشروع خاص بتغيير سلوك سائقي التوك توك، وتعليمهم حماية الفتيات من التحرش، وتعديل نظرتهم لجسد المرأة، أقمنا مسرحًا بسيطًا في احدى المناطق الشعبية، وذلك منذ ما يقرب من 15 عاما، تركت أحد الأطفال يلمس خشبة المسرح ويلهو رافضًا توجيهات المحيطين بجلوسه بعيدًا عن الخشبة، وبعد مرور سنوات كثيرة، وجدت مراهق يجري نحوي في إحدى الورش بالصعيد ليقول لي: "أنا من تركتني ألعب على المسرح، الآن أصبحت أتابعك وأشارك في التمثيل المسرحي في المنظمات الأهلية" 

يضيف جون: "بنفس الورشة وجدت سائقًا آخر كان حاجز مكان بمركب في النيل للسفر والهروب من مصر، بسبب ضيق الحال، وبعد ارتباطه بالمسرح التشاركي مع الجمهور وتعلم السلام، بقي مع زوجته، بل وأصبح واحدًا من أهم المشاركين والمتطوعين معي في تقديم خدمة الفن المسرحي لآخرين، وسائق آخر أصبح يحضر لزوجته ورد، وتعلم فكرة الاعتذار لها، واتصلت بي زوجته لتخبرني أنه تغير معها كلية".

 

تحقيق السلام النفسي، قبول الآخر، إعادة تأهيل ضحايا العنف من النساء والأطفال، إعطاء مساحة للتعبير عن الرأي مهما كان غير تقليدي، حرية المرأة والنظرة الصحيحة لجسدها، تحرر الرجال من الأفكار الاجتماعية التي تحقر من النساء، وتعليم الفنون لأطفال النزاع والحروب، كلها أمور يحاول جون العمل عليها وتسخير الفنون المختلفة لأجلها، مؤمنًا أن الرحلة التي بدءها منذ سنوات أثبتت له أن الفلاحة البسيطة التي ترص الطماطم والخضروات بتنسيق مبهر، يمكنها بسهولة الإمساك بورقة وألوان ورسم ما يجول بفكرها، أو حتى عمل خطوط مبهجة تنم عن فن لا يمكن الاستهتار به، ونفس الحال بالنسبة للرجل العامل بمهنة شاقة يمكنه السيطرة على قطعة صلصال وتشكيلها بالنحت، وغيرهم من الفئات المهمشة لديهم إبداعات لا حصر لها، فقط الإيمان بهم وإعطاءهم المساحة هما المحرك للطاقة داخلهم.

 

"جون هو المستقبل" بهذا الوصف كرمه الرئيس السابق باراك أوباما صاحب المبادرات الإنسانية الهامة في مصر، كان ذلك عام 2014 أثناء تكريم جون ميلاد بحفل نظمته مؤسسة كلينتون الخيرية بأمريكا، وقال أمام حشد من الحضور «جون ميلاد من مصر، يعمل على تعليم المصريين كيف يقبلوا بعضهم، جون هو المستقبل، يساعد الناس على اكتشاف القوة داخلهم ويساعد  الأطفال والفتيات ضد العنف الجنسى».

 

جاء ذلك بعدما تم ترشيحه بالسفارة الأمريكية عن طريق بعض الهيئات الدولية التي يتعاون معها، سافر لحضور تجمع صناع التغيير لتبادل الخبرات، حيث يتجمعون كل ثلاث سنوات لاختيار أكثر الأشخاص تأثيرًا في بلدانهم،  ووقع الاختيار على "ميلاد" هو المصري الوحيد وسط أشخاص ذو جهود حقيقية مبذولة في بلادهم، وعلى هامش اجتماع الأمم المتحدة تم اختياره مع 6 آخرين فقط من وسط 1200 شخص من أنحاء مختلفة بالعالم، لمقابلة الرئيس الأمريكي أوباما.

 

اختتم ميلاد حديثه لـ«الدستور» عن التغييرات التي تحدث للأشخاص الذين يحضرون معه، وتظل دعواتهم وكلماتهم مصدرًا للإلهام، والدافع وراء استمراره مهما بدت الصعوبات حوله، واستعان بكلمات السيدة السورية "أسماء" التي انتظمت على حضور ورشة الدعم النفسي للاجئات-رغم عدم قناعتها بالفكرة في بداية حضورها-، قبل انتهاء الورشة قالت لي: "انت علمتني أن الدين هو الإنسانية".