رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأدب والمخدّرات


بكثير من المتعة قرأت مؤخراً الترجمة العربية لقصتين من مجموعة "تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين"، للكاتب الألماني هانس فالادا (1893 – 1947م)، والصادرة عن دار الكرمة، وتحمل توقيع المترجم المصري سمير جريس.

المجموعة صدرت بالألمانية في الأساس عام 1997، أي بعد خمسين عاماً من رحيل مؤلفها، ومنها، انتقى المترجم والناشر قصتين، واحدة لها نفس عنوان الكتاب، والأخرى بعنوان "ثلاث سنوات لم أكن إنساناً".

الإدمان موضوع رئيس للقصتين، فقد وقع فالادا في قبضته أكثر من مرة، واعتاد أن يكون نزيلاً لمصحّات التعافي من الإدمان، سواء كان إدمان المورفين، أو إدمان الكحول، وفي بعض فترات سجنه كان إدمان التبغ الذي قاده للعمل طيلة شهور لجمع أعقاب السجائر بشكل سري أثناء النزهة اليومية للمساجين، ولاحقاً، عندما يعود إلى زنزانته، كان يدس شعرة من مقشّة في ثقب المبسم ليظفر ببعض النيكوتين الجاف، ثم يدس الشعرة في فمه ويتذوق النيكوتين فيهدأ جسده.

كتب فالادا عن وحش الإدمان، لا من منطلق تخييلي، بل من منطلق سِيَري، من معايشة واقعية عاينها بنفسه، أثناء فترة إدمانه على المورفين، ومحاولاته الدائمة لسرقة روشتات من عدة عيادات مختلفة تسمح بصرف المخدر، أو محاولاته لتسوّل جرعة من ذلك المخدر من أحد أصدقائه المدمنين، وكان فالادا يرى أن المورفين معشوقته الحقيقية: "أما هذه العشيقة فهي حقاَ داخلي. إنها تملأ عقلي بنورها الساطع الصافي، وعلى شعاعه أدرك أن كل شيء باطل، وأنني لا أعيش إلا للاستمتاع بهذه النشوة، إنها تسكن في جسدي، لم أعد حيواناً جنسياً بائساً، يتحرق شوقاً إلى الآخر، منهكاً من عدم الإشباع والرغبة، أنا الآن رجل وامرأة في آن واحد، وبوخزة الإبرة يبدأ الاحتفال بالعرس الأسطوري، العشيقة كاملة الأوصاف، والحبيب الذي يخلو من كل عيب، يحتفلان بأعيادهما تحت شعري الكثيف". صـ32

عكس فالادا في قصته كل المشاعر المضطربة والمشوشة للمدمن والمتعاطي: الإحساس بالعظمة ثم الإحساس النقيض بالضياع والانسحاق، المشاهدات التي لا يستطيع أن يجزم ما إذا كانت حقيقة أو مجرد ضلالات، الرغبة الدائمة في لوم العالم وسكب لعناته عليه، أو التصالح مع هذا العالم بمجرد سريان الجرعة المخدرة في دمائه.. عكسها بشكل واقعي محكم استدعى أن يشيد به عملاق الأدب الألماني هرمان هسه إذ كتب في حق هانس: "يستحق فالادا ثناءً عالياً لكتابته عن الحياة بهذه الواقعية، وهذا الصدق، وهذا القرب".

فالادا، لم يكن الأديب الأول ولا الأخير الذي جعل من المخدرات والكحول محوراً لنصوصه السردية، إذ سبقه إلى ذلك، ولحق به آخرون، منهم الإنجليزي دي كوينسي في كتابه الأشهر "اعترافات ملتهم أفيون إنجليزي" في 1822، وبعده بسنوات طويلة جاء رواد جيل البِت أو الجيل المهزوم في أميركا ليكتبوا عن الإدمان بكل أشكاله، وبعدهم كان الأمريكي تشارلز بوكوفسكي اسماً ساطعاً في هذا الدرب. وعربياً، تحضر أعمال مثل "الحالة صفر" للشاعر والروائي المصري عماد فؤاد، و "الحي الخطير" للشاعر والروائي المغربي محمد بنميلود، و"ليالي البانجو" للكاتب المصري الراحل يوسف أبو ريّة، وإن كانت المخدرات في الرواية الأخيرة هامش في النص لا محور رئيس.

وفي مقال للروائي والمترجم المصري أحمد عبد اللطيف، يذكر أن هناك تيار كبير في الرواية المكسيكية المعاصرة يطلق عليه: "أدب المخدرات"، ومن مقال عبد اللطيف أقتبس: "هو أدب يمثل جزءًا من الواقع المكسيكي، بما فيه من عنف وحلم بعبور الحدود مع الولايات المتحدة. لكنه يظهر بطريقتين، الأولى أدب بوليسي يطمح لرصد هذا العالم التحتي بتفاصيله، لكنه يرصده بنفس السطحية التي تتفق مع وجهة النظر الفنية التي لا تريد إلا تحقيق عنصر الإثارة، غير أنه يكشفه بمهارة وبلغة بعيدة عن الابتذال والخفة، ويمثله إلمير مندوثا، وربما يكون أحد رواده أيضًا. والثاني أدب جاد يستغل تجارة المخدرات كفضاء تتوالد فيه قصص أخرى يتعمّق من خلالها في الأزمات الإنسانية والمجتمع المكسيكي، بل ويستطيع خلق ثيمات تاريخية أو سياسية في نفس هذا الفضاء، أثناء ذلك يعتني بالأسلوب، ويمثله إميليانو مونخي ويوري إيريرا. ربما تكون السمة المشتركة بين النوعين هو استحواذ العنف على تطور أحداث الرواية".