رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مع صلاح عيسى وهوامش المقريزى


فى ٢٥ ديسمبر ٢٠١٨ حلت الذكرى الأولى لرحيل أسطى الصحافة والمؤرخ والكاتب الكبير صلاح عيسى، لا يعوضنى عن رحيله إلا أننى أراه فى أعماله الباقية وأقرأ فى صفحاتها روحه المحبة وعقله اللامع وضحكاته المجلجلة. كان صلاح صديقًا عزيزًا ارتبطت به منذ شبابى الأول وأحببته منذ ذلك الحين إنسانًا نبيلًا ومثقفًا ووطنيًا.
فى كتابه «هوامش المقريزى» يظهر صلاح عيسى مؤرخًا، وليس فقط، لكن مؤرخًا فنانًا، وليس فقط، لكن مؤرخًا فنانًا صاحب موقف، فيقدم صورًا مختارة من تاريخ بلادنا، يصفها فى المقدمة بأنها: «صلاة صوفية فى معبد مصر، الأم الشجاعة التى تعلمنا على يديها الحب والصبر والكبرياء». يدرك صلاح أن للعودة للتاريخ وظيفة أساسية هى تجديد وتأكيد كل ما يلهم الناس مواصلة الحياة ومقاومة الصعاب والسخرية منها والتشبث بالأمل. فى مقدمته الطويلة يضع الكاتب يده بجسارة المفكر على حقيقة جوهرية وهى أن: «كل فترات اليقظة التى ارتجفت بها مصر كانت ابنة العنف فى مواجهة الاستعماريين، حدث هذا خلال اليقظة التى قادها محمد على، وخلال التحدى العظيم الذى قاده عرابى، وبعده ثورة ١٩١٩. ومن هذا العنف ولدت مصر وتفجرت بالفن والفكر والإبداع»، ويضيف عيسى أن الكفاح المصرى من أجل الحرية كان «الوسيلة الوحيدة لتطهيرنا.. ولتطهير المستعمر ذاته وإعادته إلى جوهره الإنسانى». ويعرض لنا بروح الفنان وعقل المؤرخ منمنمات تاريخية تسعى لاجتذاب القارئ إلى تاريخ بلاده، صورًا مضحكة وأخرى مؤسية وثالثة تدعو للتأمل، وتلقى كلها الضوء ليس على ما كان فحسب، بل على ما قد يكون. يصف صلاح جانبًا من صبر مصر على مآسيها المذهلة فى هامش باسم «العيال على العرش» فيقول: «إن الأطفال قد حكموا مصر ما يزيد على نصف قرن».
وعلى امتداد الحكم المملوكى تولى سبعة عشر طفلًا حكم مصر.. منهم الملك المظفر أحمد الذى تولى الحكم وعمره عشرون شهرًا! مع ذلك تمت مراسيم تنصيب السلطان الطفل وهو جالس على سرير، لكن السلطان الطفل بكى عندما بدأ الأمراء يقدمون له فروض الولاء، لأن مرضعته لم تكن بجواره، فاستدعوها وحين وضعته على حجرها نام كالملائكة، وخلال ذلك كان الأمير «ططر» يحكم مصر من خلف الستار!».
فى هامش آخر بعنوان «العجة والبصارة» يحدثنا صلاح بسخرية عن «البصارة» بصفتها وسيلة للتنديد بمصادرة الحريات! وذلك عندما منع الحكام الفاطميون خطباء المساجد من التعرض للحاضر بكلمة، فقام أحد الأئمة فى خطبة الجمعة يقول: «البصارة يا عباد الله من أفضل الأطعمة لتقوية المؤمن، وتصنع البصارة من فول مجروش وتنقع فى ماء ثم تدق فى ماجور»! وقضى الخطيب الوقت كله فى وصف البصارة والفرق بين طريقة المصريين فى إعدادها وطريقة الشوام وأنواع التوابل التى تضاف إليها، بينما راح المصلون يتطلعون إليه بدهشة إلى أن أدركوا أنه بحديثه عن البصارة يبلغهم أنه ممنوع من الكلام فى أى موضوع ذى شأن!.
كانت البصارة إحدى طرق مواجهة القمع! فى هامش آخر يتحدث عن تأسيس ديوان رسمى للرشوة فى عهد إسماعيل بن الناصر قلاوون، عرف بديوان البراطيل، وكلمة البرطيل فى المعاجم هى الرشوة، وتبرطل الرجل أى ارتشى. يقول صلاح إن مهمة ذلك الديوان كانت تحصيل الرشاوى ثمنًا للوظائف أو قضاء حاجات الناس، حتى إن الأمير «بلباى الأيتالى» اشترى حكم ولاية صفد بعشرين ألف دينار، ثم دفع برطيلًا جديدًا فأصبح ناظرًا للوقف، ثم قائدًا للجيش، ثم نائبًا للسلطان!.
نقرأ فى هامش آخر حقيقة غريبة من عهد محمد على، وكانت الصناعة والزراعة فى عهده قد شبت ونمت، فاستحدث محمد على مفهومًا قانونيًا جديدًا لمبدأ «خيانة الأمانة» يقضى بأن شراء مصنوعات غير وطنية من خارج إنتاج المصريين يعد «خيانة للأمانة»، ثم حدد عقوبة تلك الخيانة بحيث تتدرج مع قيمة الأمانة التى خانها الشخص، فإذا بلغت قيمة ما اشتراه شخص من مصنوعات أجنبية خمسة آلاف قرش يسجن من عامين إلى خمسة فى اللومان، أما إذا ثبت أنه كان يجهل وجود صناعة وطنية من الصنف الذى اشتراه فإنه يعامل برفق ويربط بالقلعة سنتين.
حاول محمد على حماية الصناعة الوطنية بتلك العقوبات، وكان فى الوقت ذاته ما زال ينظر إلى المصريين بصفتهم عبيدًا! يقول عيسى إن المصريين كانوا يسمون عبيدًا فى الوثائق الرسمية فى عهد محمد على وخلفائه الأوائل، وعندما أصدر محمد على قانون «السياسة نامه» عام ١٨٣٧، وهو أول قانون نظامى فى مصر، خاطب المصريين بوصفهم «عبيدًا»، ولما تشكل مجلس الشورى نص فى أمر تشكيله على أنه يتألف من: «الذين يصير انتخابهم من العبيد» أى من المصريين!! هذه الصور وغيرها مما يحتويه كتاب «هوامش المقريزى»، تؤكد أن مثل هذه الكتب هى التى يجب أن تدرس فى المدارس، هذا إذا أردنا أن نحبب أبناءنا فى تاريخ مصر لكى يبحثوا عنه بأنفسهم فيما بعد وينقبوا فى مسيرتها الشاقة والمفرحة والعظيمة التى قطعتها «بالحب والصبر والكبرياء».