رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشاهد

جريدة الدستور

الشارع ساكن فى الرابعة فجرًا. شبابيك البيوت مغلقة تتأرجح على حبالها الملابس. هبات هواء خفيفة على أطراف «جونلتها» وهى تسير وحدها على الرصيف. اضطرتها عملية طارئة إلى البقاء فى المستشفى حتى هذا الوقت. اتصلت بأمها وقالت لها: «تناولى أنتِ العشاء يا ماما. سأتأخر». تجاوزت مغسلة «الأمراء» ثم صيدلية «النجدة»، اقتربت من «الخرابة» التى كانت عمارة هدمت وبقيت مكانها أرض مهجورة من الأنقاض والأسياخ وأكوام الأتربة وبرك المياه. واصلت سيرها وهى تضغط على حقيبة يدها تحت إبطها. القمر فى ظهرها وظلها أمامها يسبقها على الرصيف. فجأة شق الهواء الساكن من خلفها صوت وثبةٍ. قبل أن تلحق وتستدير، كان الرجل قد مد ذراعه وطوق عنقها. كادت حنجرتها أن تتحطم من قبض الذراع المتوترة. سقطت حقيبة يدها. شهقت بقوة. سد فمها بيده بإحكام. تحجرت فى موضعها. علا بركبته وغرزها بين فخذيها من الخلف بحركة عنيفة مؤلمة. راح يدفعها وهو يلهث ناحية الخرابة. ترست بكعبى قدميها فى الأرض. أخذ يرفعها بركبته لأعلى رفعات متتالية يزحزحها عن الرصيف إلى داخل الخرابة. أخذت تلكم جنبه لكمات منهارة. صرخت فلم تصدر عنها سوى نفخة هواء بلا صوت. بدأت دموع الهزيمة تسيل حين وجدت نفسها داخل الخرابة. أدارها من كتفيها إلى ناحيته. حدق بها بنظرة محمومة ويده على عنقها. شهقت تلتمس دفقة هواء. لطمها بقوة. التفتت إلى الشارع. لمحت رجلًا يعبر بهدوء وهو مطرق الرأس. صاحت بصوت مختنق باللهفة: «الحقونى». توقف الرجل مكانه. أدار عنقه يستكشف من أين انبعث الصوت. لبث لحظة واقفًا ثم استأنف طريقه. فتحت فمها نصف فتحة لتصرخ من جديد فلطمها بصلابة أشد وجذبها من شعرها إلى أسفل فانكسرت على خصرها نحو الأرض، وقبل أن تسقط تمامًا أحست بزلطة صغيرة تنزلق من تحت كعب حذائها. طرحها أرضًا وحط بركبته على صدرها خانقًا إياها بكلتا يديه. دفعته بساقيها ولكمته فى كتفيه، وسمّعها يتصيد صدى الخطوات فى الشارع، ثم شعرت بأن روحها تفارقها من رأسها مثل منديل ناعم يستلونه، ولم تدر بشىء بعد ذلك.
جلست فى قسم الشرطة تنظر من خلال دموعها إلى أظافرها المهشمة. قالت للضابط إنها لا تتذكر سوى أن الذى اغتصبها كان ضخم الرأس. استدركت وهى تتوقف بين كل كلمة وأخرى: «شخص ما عبر الشارع وأنا أصرخ. توقف قرب الخرابة لحظات، ربما رأى الرجل وحفظ ملامحه». أطرقت برأسها: «لكنه لم يحرك ساكنًا وواصل طريقه». رجّحت الشرطة أن ذلك الشاهد من سكان الشارع فبدأت تحرياتها عنه هناك لعله يدلى بما يفيد التحقيق.
بسؤال بواب العمارة المواجهة للخرابة أقسم بحرارة إنه رجل مسالم لا علاقة له بأى شىء، لكنه سيحكى بالدقة كل ما يعرفه. قال إنه كان يغسل السلالم فجر الأمس حين فوجئ بالصبى الذى يبيع ربطات الخبز يدخل عليه مهرولًا ويخبره وهو يلهث أن شيئًا ما يحدث فى الخرابة. تنهد البواب: «نعم». قال: «شىء ما يحدث». لكنى رجل مسالم فنصحت الولد ألا يزج بنا فى مشاكل ونحن أناس على قد حالنا، فانصرف الولد وهو يبرطم وعدت إلى غسيل السلالم. لا يا سيدى لم أنس شيئًا. حكيت كل ما حدث بدقة. بسؤال صاحب محل تنجيد «سلامة» قال: «بالأمس؟، بالأمس كنت سهرانًا فى المحل لإنهاء شغل مطلوب على السريع. الشغل؟ كنبتان ومقعدان لعروس عقبال أولادكم. قرب الفجر سمعت صيحة ظننت أنها صراخ قطة لأن بعض المراهقين يهبطون فى الفجر يدخنون ويلتهون بصب الجاز على القطط وإشعال النار فيها، لكن حين استعدت الصوت أدركت أنها استغاثة بنى آدم. ألقيت ما بيدى وهرولت إلى الشارع. توقفت أمام الخرابة. هى المكان الوحيد الذى يلجأ إليه الحشاشون والبلطجية. لبثت دقيقة واقفًا. لم أتقدم خطوة ولم أدخل لأتبين الأمر. الصراحة المجرمون الآن فى كل مكان. ماذا إن أقحمت نفسى وتعرضت لطعنة سكين؟. عدت أدراجى إلى المحل. لا. لم أسمع الصوت مرة أخرى». وأضاف الرجل متعجبًا كأنما من نفسه: «لكن، ألم يكن بوسعى أن أصيح وأدعو الآخرين لنجدتها؟!». دق كفًا بكف صائحًا: «يا حول الله».
بسؤال مهندس على المعاش فى الطابق الثالث، قال إنه كان نائمًا نومًا خفيفًا. قرب الفجر سمع صيحة حادة من شباك حجرة نومه. تقلب على سريره مدة ثم نهض بعد أن طار النوم من عينيه. نظر من وراء مصراعى الشباك فشاهد فتاة جالسة على حافة الرصيف وقد وسعت ما بين قدميها. قال: «كانت مطرقة صامتة هامدة. لا. لم يكن بالشارع آخرون. ظلت ساهمة مدة وأخيرًا نهضت، وما إن بدأت تخطو حتى ترنحت. فردت ذراعيها فى الهواء وتوازنت. مشت ببطء فى اتجاه الصيدلية. لا. مشت صامتة. فكرت بالطبع أن أهبط أو أنادى عليها من الشباك أستفسر إن كانت بحاجة إلى شىء. بالطبع. لكن أنت تفهم يا سيدى أنه إذا انشغل الإنسان بكل ما حوله فلن يجد دقيقة لنفسه. لا. عدت إلى نومى ولم أسمع عن الاغتصاب إلا منكم الآن فقط».
لم تساعد الشرطة كثيرًا إفادة الصيدلى ذى النظارة المذهبة التى جاء فيها أنه كان «يتجه من محطة الأتوبيس إلى صيدليته حين خيل إليه أنه لمح كفًّا تلوح من وراء عمود خرسانى فى الخرابة، لكنه حسب أن ما يراه توهم مَن لم يشبع نومًا، وواصل سيره. بعد حوالى الساعة فتحت باب الصيدلية شابة شعرها مهوش والبلوزة ممزقة عند كتفيها. وقفت أمامه من غير أن تنظر إليه. طلبت بصوت خافت قطنًا وشاشًا ومطهرًا. جمعت كل ذلك بين كفيها المرتجفتين واستدارت منصرفة من دون أن تسدد ثمن ما أخذته. استطرد الصيدلى: «لكنى لم أطالبها بالنقود. نعم أستطيع التعرف إلى وجه الفتاة لكن المغتصب؟ لا أظن. الحق أن الحيرة استولت علىّ، أكان ينبغى القيام بشىء ما؟ لكن أى شىء؟ أنا صاحب صيدلية لا أستطيع ترك المكان». لم تكن الشرطة معنية بالظروف التى عاقت سكان الشارع عن التدخل، فقد كان همها الرئيسى العثور على شاهد يحتمل أنه رأى المغتصب. فى شهادة مدام وفاء، مديرة حضانة الأطفال، قالت: « كنت أسير متجهة من أول الشارع نحو الحضانة. نعم. فى الفجر تقريبًا. رأيت أمامى شابة قادمة من منتصف الطريق. لفت نظرى أنها تمشى بتثاقل، وهى تباعد بين ساقيها وكفها على بطنها. حدثت نفسى بأنها لا بد أن تكون امرأة سيئة الحظ مثلنا نحن النساء جميعًا، ضربها زوجها وطردها من البيت فى هذا الوقت المبكر، لكنى لم أتخيل قط أنها اغتُصبت. اسمح لى أن أدقق فى الصورة. نعم. هى. كيف فاتنى أن تكون قد اغتصبت وأنا امرأة مثلها؟ كنت على بُعد خطوات منها، ولم أسألها ما بها. شىء فظيع. فظيع».
فى العمارات الأخرى كان معظم السكان يغطون فى النوم وقت الجريمة، لكن أحدهم قال إنه مر فى الشارع فى ذلك الوقت لكنه كان مسرعًا، وإنه سمع صرخة أو ما يشبه صياح نزاع بين رجل وامرأة. توقف يتطلع حوله لكن لم ير شيئًا. وعندما سُئل: «متى كان ذلك تحديدًا؟». أجاب: «يوم الثلاثاء الماضى». قيل له: «نحن نتكلم عن حادثة وقعت بالأمس». قال: «لا أدرى. أنا أتحدث عن الثلاثاء الماضى. الظاهر أن مثل هذه الحوادث صارت تتكرر كثيرًا. نحن فى منطقة شعبية لكن سكان المنطقة المتاخمة أناس كبار، ضباط وقضاة ورجال أعمال، والناس عندنا إذا ما وقع حادث يخافون أن يكون للكبار يد فيه ومن ثم لا يقحمون أنفسهم». بسؤال بائع الصحف الذى يضع فرشة جرائد قرب المدرسة الابتدائية، قال إنه كان فى انتظار وصول السيارة التى توزع الجرائد، كان جالسًا يطالع أخبار الحوادث لأنه على حد قوله مدمن قراءة صحف، وقال: «نعم. سمعت صرخة حادة. بدت حقيقية، لكنى لم أكن واثقًا، لأنى من كثرة ما أطالع أخبار الجرائم لم أعد أميز بين الصيحات الحقيقية وأصوات الأطفال المختطفين التى تنبعث فى خيالى، أو صيحات العجائز اللواتى يقتلن من أجل جنيهات قليلة. لا يا سيدى. لم أترك مكانى. كنت جالسًا هنا طول الوقت». بعد أسبوع من التحريات أيقنت الشرطة أنه ما عدا عجوزين وشخص مقعد كان معظم قاطنى الشارع شهودًا على ما جرى بطريقة أو بأخرى. لكن الشرطة عجزت عن العثور على ذلك الشاهد الذى عبر فى تلك الليلة، فأغلق التحقيق فى القضية. خلال ذلك كانت الفتاة التى اغتصبت فى الخرابة تتردد على قسم الشرطة تستفسر إن كان قد جد جديد إلى أن قيل لها فى المرة الأخيرة إن القضية قُيدت ضد مجهول، فخرجت من مبنى القسم إلى الشارع، ولبثت واقفة متحيرة تنقل بصرها بين السيارات والناس. أحست بالعجز، فلم يكن بوسعها أن توضح لأحد أن كل ما يهمها عند العثور على الشاهد هو أن تضع عينيها فى عينيه، تتأمله، لترى الإنسان الذى لم يحرك ساكنًا.
من مجموعة «ورد الجليد»