رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اشحن «جثتين» بثمن واحدة



لم أتمكن من ضبط مشاعرى التى اضطربت بشدة، بعد قرار خفض رسوم شحن جثامين المصريين المتوفين بالخارج بمقدار ٥٠٪، وسألت نفسى هل هذا خبر يثير الغبطة والسعادة خاصة أنه صدر لأسباب إنسانية عقب وفاة ستة من المغتربين المصريين فى الكويت فى حادث، أم أنه خبر يثير الحزن والأسى لأن التخفيض الوحيد الذى تكرمت به أجهزة الدولة على المغتربين، الذين يبيعون سنوات عمرهم من أجل لقمة العيش الكريمة، وحتى يؤمنوا مستقبل أولادهم وعائلاتهم لن يتمكنوا من إدراكه، لأنه تكريم لمن يدركه الموت فى الغربة ولا عزاء للأحياء.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده، ولا مرارة الغربة إلا من عاشها لسنوات طوال، وأنا واحد من ملايين المصريين الذين جربوها، ومضت عليهم سنوات طويلة وهم يحلمون بالاستقرار فى بيوتهم فى أم الدنيا، وأم الدنيا بالنسبة للمغتربين ليست مجرد كلمة أو عبارة يرددونها بألسنتهم، بل هى طوفان من الشوق والحب.
لا أستطيع إلا أن أشكر وزير الطيران على قراره الإنسانى، ولكنى أعترف بأنه قرار أثار شجونى وشجون ملايين المصريين المغتربين فى الخارج، الذين جفت حلوقهم فى لقاءات السفراء والمسئولين المصريين معهم خارج الحدود، من أجل منحهم أى أولوية فى إدخال سياراتهم وأثاث بيوتهم عند العودة النهائية، بدلا من أن يضطروا لبيع ممتلكاتهم بأبخس الأثمان، خاصة أن دولا عربية أخرى لديها نفس ظروفنا الاقتصادية وربما أكثر، تمنح مغتربيها هذه الميزات.. لكننا بعد سنوات طويلة من الجدال والأحلام لم نمنح المغتربين سوى قرار بتخفيض شحن جثامينهم بمقدار خمسين بالمائة، ولا أعرف هل على المغتربين أن يهللوا لهذه البشرى السارة، لأن شحن جثتين أصبح بتكاليف جثة واحدة فقط..!!، أو أنك يا عزيزى المغترب الذى تمول بلادك بالعملات الحرة طوال سنوات غربتك، وتدفع رسومك فى التأمينات بالدولار إذا كنت موظفا، وعليك أن تقفل فمك وأنت تعرف أن سعر الدولار التأمينى غير سعر الدولار فى البنوك.. ومع هذا لن تحصل على أى تخفيض إلا بعد وفاتك.
ربما لا يفهم البعض سبب إثارة هذا القرار لأحزان ملايين المغتربين، ولهذا وجب التوضيح، فكل خبراء الاقتصاد فى بلدنا يعرفون جيدا أن هناك أربعة مصادر للعملات الحرة لمصر، هى السياحة والصادرات النفطية وعوائد التصدير وإيرادات قناة السويس، وأخيرا تحويلات المصريين العاملين بالخارج والتى بلغت خلال عام ٢٠١٨ أكثر من ٢٦ مليار دولار وفقا لتصريحات طارق العامر رئيس البنك المركزى.
وإذا راجعنا واردات القناة والتى بلغت ٥.٦ مليار دولار خلال العام الماضى، والسياحة التى تتعافى وغيرها، سنجد أن تحويلات العاملين بالخارج هى الأكبر بكثير، وهى التى تساند الاحتياطى النقدى الذى ارتفع خلال الأعوام الأخيرة بصورة كبيرة ومشرفة.
وكمغترب سابق عاش سنوات طويلة خارج مصر، وأنا أدرك أنه لا أمان لى إلا فى بلدى، فقد كنت حريصا مثل ملايين غيرى، على تحويل كل دولار يفيض عن مصروفاتى إلى حسابى فى البنك بمصر، وأنا أمتلك الشجاعة كى أعترف بأننى فعلت ذلك بدافع شخصى، فبلدى هو المكان الوحيد الذى أشعر فيه بأننى مواطن من الدرجة الأولى، فمهما كبر رصيدك فى الغربة فأنت «أجنبى» يمكن إبعادك بقرار.. لكن ما العيب فى أن تتلاقى مصلحة المغترب مع مصالح وطنه؟.
وإذا اعترفنا أن عشرة ملايين مصرى فى الخارج، أصبحوا خلال السنوات الأخيرة، بمثابة الدجاجة التى تبيض دولارات، فمن الطبيعى أن يسأل كل مغترب نفسه، أليس من حقنا أن ننال ولو القليل من التقدير من وطننا الذى نذوب فيه عشقا، أليس من حقنا أن ننال بعض المميزات ولو كانت قليلة؟!.
أعترف بأن هذه الأسئلة كانت تتردد فى نفسى قبل أن أقرر العودة نهائيا لأحضان وطنى قبل شهور، خاصة عندما اضطررت لبيع سيارتى التى عاشت معى سنتين ونصفًا فقط بثمن بخس، لأننى لو دفعت الجمارك المستحقة عليها، سيصبح ثمنها أكبر من قيمة سيارة أحدث موديل من نفس الماركة..(!!). كذلك وأنا أبيع أجهزتى الكهربائية وأثاث بيتى فى الغربة بقروش لا تساوى واحدا على عشرين من قيمتها رغم أنى فى حاجة إلى كل هذا بعد العودة، لإدراكى أن الجمارك لن ترحمنى.
لا أحد يمن على وطنه، ولكن الوطن يجب أن يكون رحيما بأبنائه المغتربين عندما يقررون العودة بعد سنوات طويلة، كانوا خلالها بمثابة الدجاجة التى تبيض ذهبا، وتفيض أيضا بالوطنية وتبعث برسائل سياسية مهمة خلال الانتخابات، لأن الغربة علمتهم القيمة الحقيقية للوطن، وأنه لا بديل عن التمسك به والتعلق بترابه.. ومن ينسى طوابير المغتربين فى كل الانتخابات التى جرت بعد ثورة الشعب فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
تكريم المغتربين المصريين يجب أن يتم وهم على قيد الحياة، لا أن يكون بتخفيض ثمن شحن جثامينهم.. أليس كذلك؟!.