رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا يتسابقون على منبج (مدينة أبوفراس الحمدانى)؟


فور إعلان الرئيس دونالد ترامب عن سحب القوات الأمريكية من سوريا، شهرت كل الأطراف المتصارعة أسلحتها وأعلنت استعدادها لمعركة حيوية وفاصلة للسيطرة على مدينة «منبج» الاستراتيجية.
وحتى هذه اللحظة لا يستطيع أحد أن يقرر كيف ستحسم معركة منبج، فقد أعلن بشار الأسد دخول الجيش السورى إلى المدينة، لكنه لم يدخل حتى هذه اللحظة، وقد أربك هذا حسابات الرئيس التركى أردوغان الذى يرى فى السيطرة على هذه المدينة، تحقيق كنز من الأهداف الاستراتيجية، خاصة أنها معقل قوات سوريا الديمقراطية والتى تعد امتدادا للأكراد الذين يعتبرهم عدوه الأول.
لماذا يتسابقون على «منبج» التى تعرف بأنها مدينة القائد الشهير أبوفراس الحمدانى، الذى لم يتبق منه سوى قصائده.. ولماذا تكتسب معركة منبج هذه الأهمية الكبرى فى وسائل الإعلام العالمية؟.
الحقائق تؤكد أن مدينة منبج قد مر عليها كل الطامعين منذ بداية المؤامرة على سوريا فى ٢٠١١، فقد رفرفت عليها الرايات السوداء لتنظيم داعش الإرهابى، الذى احتل المدينة قرابة عامين، وبعد معارك ضارية تم طرد الدواعش بواسطة الميليشيات الكردية لترفع فوقها الرايات الصفراء، ونشرت الولايات المتحدة جنودا لها هناك، وقد طالبها أردوغان مرارًا بمغادرة هذه القوات المدينة.
كل الطامعين يريدون منبج... ليس اليوم فقط أو خلال الصراع الدائر حاليا فى سوريا، لأن منبج التى تعرف بمدينة الآلهة والتاريخ والأدب لها أهمية استراتيجية وجغرافية وعسكرية أيضا.
تمنحها تركيا أهمية خاصة لأنها تقع على بعد ٣٠ كيلو مترًا فقط من حدودها، وهى تقع على الطريق الواصل بين عفرين وعين العرب كوبانى، وتطل على نهر الفرات، وتسيطر على شبكة من الطرق البرية الواصلة بين المناطق المترامية الأطراف، ويمكن القول إنها نقطة التقاء بين آلاف القرى والبلدات والمدن فى شمال وشرقى حلب، وغربى الرقة.
باختصار هى نقطة محورية فى الطريق الذى رسمه أردوغان لحملته العسكرية التى زعم خلال العام المنصرم أنها ستصل إلى حدود العراق.
منبج احتلت من العثمانيين لأول مرة فى العام ١٥١٦ ميلادية أى مع بداية الحملة العثمانية على العالم العربى، وها هم يحاولون أن يعيدوا الكرة بعد ٣٠٢ عام، وقد زعمت صحيفة تركية مؤخرا أن ثلث منبج والقرى المحيطة بها مملوكة للسلطان العثمانى عبدالحميد الثانى الذى أسس هناك مدرسة وجامعا وهى مزاعم يتم إطلاقها كمحاولة لتبرير الاحتلال الثانى للمدينة.
والأكراد أيضا يحلمون باستمرار السيطرة على منبج،، والأمريكيون هم من ساعدوا «قوات سوريا الديمقراطية»، وهى الميليشيات ذات الأغلبية الكردية، على طرد داعش منها وحكمها بعد ذلك.
لكن وجود ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» بمعاونة أمريكية، يمثل فى الحقيقة الدافع الأكبر لأردوغان لغزوها والحيلولة دون استمرار النفوذ الكردى على حدوده.
ومن الطبيعى أن تسعى روسيا التى تحتفظ بالكلمة العليا فى سوريا الآن لإعادة منبج إلى سيطرة الحكومة السورية الشرعية.
كلهم إذن يطمعون فى منبج التى انكسر سيفها منذ زمن بعيد، فلم تعد تجد من يدافع عنها بعد أبوفراس الحمدانى الفارس والشاعر الذى حكمها منذ ألف عام عندما كانت حلب عاصمة الدولة الحمدانية.. وصارت تعرف من يومها بأنها مدينة أبوفراس الحمدانى.. رغم أنها أنجبت شاعرين عظيمين آخرين هما البحترى وعمر أبوريشة.. لكن المجد الأكبر كان من نصيب الشاعر المحارب الذى خلدها بسيفه وقلمه. فعندما أسر للمرة الأول أنشد معبرا عن فقده لأمه المرأة الكبيرة التى كانت تعيش فى منبج فقال:
لولا العجوز بمنبجٍ ما خفت أسباب المنيّةْ
أمست بمنبج حرة، بالحزن، من بعدى، حريّةْ
ويبدو أن أبى فراس الذى حكم منبج وهو فى السادسة عشرة من عمره، وكانت له صولات وجولات بها باعتبارها ثغرا من الثغور فى مواجهة الإمبراطورية الرومانية، وقد مات فى شرخ الشباب (٩٣٢- ٩٦٨)، يبدو أنه كان يشعر بأن مأساة منبج لن تنتهى فأنشد لها قائلا:
يــَا أُمّتَــا! لا تَـيــأسِــى لـلـهِ ألــطـــافُ خـفــيّهْ
كَـمْ حَـادِثٍ عَنّـا جَـلاهُ وَكَــمْ كَـفـَانَـا مِـنْ بـَلِيّهْ
أوصيكِ بالصبرِ الجميـلِ ‍فإنهُ خيرُ الوصيّهْ!

منبج اليوم تنتظر الحسم بين أطراف متصارعة، فى حرب بدأت بكذبة البحث عن الديمقراطية تماما مثل كل ثورات الربيع العربى، وبعد تهجير وقتل الملايين كشف أطراف اللعبة عن وجوههم وأهدافهم غير النبيلة.
ولا أحد يعرف كيف ستحسم معركة مدينة أبوفراس الحمدانى، هذا الفارس الذى رحل وأكل الصدأ سيفه، فمعارك اليوم ليس بها فرسان ولا تجدى قصائد الشعر فى حسمها، فالدمار يحيط بالمدينة ورائحة الموت تجذب الذئاب الطامعة أكثر وأكثر.
لك الله يا منبج، ولك الله يا سوريا.