رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ديسمبر.. ما بين العودتين


عائد إلى قريتى بالدلتا عبر طريق جديد.. لا مطبات.. لا زحام.. بوابات عند منتصف الطريق.. وجوه مبتسمة.. محطات وقود بها فروع لسلاسل تجارية وصيدلية وركن صغير لمقهى يحمل اسمًا كبيرًا.. تستطيع أن تستريح من الطريق رغم أنه لا يوجد أى متاعب.. مشاهد جميلة فى ليلة شتوية من ديسمبر ٢٠١٨.. عائد بذاكرتى وأنا أجلس فى انتظار فنجان القهوة.. عائد إلى ليلة شبيهة فى ديسمبر ٢٠١١.. لم يكن هذا الطريق قد أُنشئ.
كان الطريق ممتلئًا بالمطبات.. لا مقهى نظيفًا، بل مجموعة من الغرز التى تمتلئ بسائقى النقل أو البلطجية تفوح منها رائحة المخدرات وضحكات المساطيل.. تسير وأنت أقرب إلى حالة الرعب، إن لم يكن من سائق نقل يطير بسيارته يمينًا ويسارًا، فإن الرعب يأتيك من مطب صناعى يظهر فجأة وراءه وبين الأشجار مَنْ يحمل سلاحًا ليجبرك على ترك السيارة، أو دفع الفدية، أو سرقة ما معك.
عائد إلى قريتى فى الليلة الشتوية من بعيد، أنوار القرية تبدو فوق أعمدة الإنارة ومآذن المساجد.. مقاهٍ جميلة فى مدخل القرية.. ملاعب النجيل الصناعى تبدو وسط إضاءة كاشفة، محلات تجارية بدأت تملأ شوارع القرية.. مركز شباب بداخل صالاته لاعبون ومدربون ومستخدمو صالة الكمبيوتر والبلاى ستيشن.. عائد بذاكرتى إلى نفس الليلة الشتوية فى ديسمبر ٢٠١١.. الطريق إلى مدخل القرية مظلم.. لا كهرباء، وبالتالى لا مياه.. برد شديد يكسو شوارع القرية الخالية.. طلقات رصاص تمزق سكون الليل تعلن مطاردة للص أو بلطجى، أو محاولة لاقتحام منزل أو مزرعة.
وما بين العودة إلى قريتى والعودة إلى ذاكرتى، سنوات سبع تغيرت فيها ملامح الوطن وولد وطن جديد تعافى من أمراضه أو يكاد.. تشهد كل مناطقه ما يمكن أن نطلق عليه إعادة الحياة.. إعادة الحياة إلى وطن كدنا نفقده.. ودولة كادت تتهاوى، وجيش كاد يُمزق، وشرطة انهارت، ومواطنون تاهت منهم بوصلة الطريق إلى المستقبل الصحيح.
ما بين العودتين، مسيرة عمل شاق، وإصرار وأحلام وآمال وآلام، ومئات الشهداء وآلاف المصابين، ومليارات الخسائر.. وما بين العودتين نزيف كاد يودى بحياة الوطن.. تمكن جراحون وطنيون من إيقافه عبر جراحة كانت مؤلمة، ولكنها كانت ناجحة.. تحس أن الوطن يتعافى ويخرج من دور النقاهة إلى مرحلة الشفاء الكامل.
سبعة أشهر من ديسمبر مرت علينا.. كل عودة لشهر ديسمبر كنت تستطيع أن ترى جديدًا.. أمن تصنعه شرطة مدربة تعلمت الدرس جيدًا، وأصبح هدفها تأمين المواطن وحماية الوطن من الداخل.. أمن تصنعه قوات مسلحة استطاعت أن تتقدم وتتطور ولم تمزقها خلافات سياسية، ولا نزاعات عِرقية، ولا مذاهب سياسية، واستطاعت أن تقوم بدورها فى حماية الوطن، ثم المساعدة فى تنميته وتعميره ودعمه فى مسيرته نحو المستقبل.
ديسمبر ٢٠١١ المشهد كان يزداد تعقيدًا، والإخوان يمرحون ويستعدون لالتهام الفريسة ورحلات الخونة مستمرة من الدوحة، وإسطنبول ودول المنطقة تتهاوى، والمصريون فى حالة تُشبه الصدمة، أو الاستسلام للصدمة.
ديسمبر ٢٠١٢.. المشهد أكثر سوءًا.. مرسى فى القصر.. عبود الزمر فى استاد القاهرة تكريمًا له ولرفاقه لقتلهم السادات صاحب الانتصار.. الدولة تكاد تسقط فى قبضة الإخوان.. لولا مولد تحرك شعبى وعيون أخرى من أبناء الوطن تراقب فى صمت وتستعد لنجدة الوطن، وقت أن يصل إليها تفويض المواطنين.
ديسمبر ٢٠١٣.. المشهد يعود للإضاءة.. جيش تحرك لحماية الوطن، وشرطة تحمى الوطن، وشعب استفاق من غفوته ليحقق أمله فى العودة للوطن والعودة بالوطن.. وأيضًا لم يخل الشهر من ملامح الانتظار.. انتظار اكتمال الملامح.. التحرك الشعبى يزداد، ولكن فى أمان واطمئنان.. دعوات للقائد أن يتولى زمام الأمور.. وعيون وطنية مصرية ترصد كل لحظة، وتعد العدة لبدء العمل وتحقيق الحلم.
وما بين ديسمبر ٢٠١٤ وديسمبر ٢٠١٨ تغيرت الصورة تمامًا.. لا يمر يوم إلا وهو يحمل الجديد لمصر لتنطلق المسيرة إلى مستقبل يمثل الفترة الأكثر إشراقًا فى تاريخ مصر الحديث.
عائد من قريتنا فى صباح شتوى دافئ.. تسبقنى آمال كثيرة للوطن.. أثق فى أن حراسه قادرون على تحقيقها عائدًا يحمل بأحلام البسطاء فى استكمال رحلة المائة مليون صحة.. وأمل فى مستشفى أكبر.. ومدارس أكثر سعة.. وطموح فى مصانع صغيرة ومشروعات أصغر تنهى حالة بطالة البعض.. وثقة فى أن الشرطة ستقضى على انتشار المخدرات وتنتصر لأهل القرية ممن يريدون تحطيم شبابها.
عائد من القرية محملًا بالكثير، وعائد إلى ذاكرتى لأقارن بين العودتين سابقًا، والآن عائد والرئيس يختتم عامًا تم تخصيصه لأصحاب الاحتياجات الخاصة حقق فيها جزءًا كبيرًا من أحلامهم.. عائد والرئيس يحمل الخير لمصر ولإفريقيا فى عام جديد.