رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

100 سنة سادات «5».. وضعت خطة أول ثورة فى صيف ١٩٤١ لكنها فشلت فأخذت المسألة بروح رياضية

جريدة الدستور

كنت مفتونًا بشخصية عزيز المصرى منذ لقائنا فى منقباد، وكان معروفًا عنه أنه يكره الإنجليز، حتى إن سير مايلز لامبسون، السفير البريطانى فى ذلك الوقت، طلب من على ماهر إقالته من منصبه بالجيش ولكن على ماهر اكتفى بإعطائه إجازة مفتوحة..
كنا بحاجة إلى الإفادة من خبرات هذا المحارب العظيم وإرشاداته..
هكذا أحسست، فطلبت من الشيخ حسن البنا أن يجمعنى به وكان ذلك فى سنة ١٩٤٠ وهى نفس السنة التى التقيت فيها بالشيخ البنا..
واستجاب الرجل على الفور.. فطلب منى أن أتوجه إلى عيادة الدكتور إبراهيم حسن بالسيدة زينب.. وكان فى ذلك الوقت وكيل الإخوان.. وأحجز تذكرة كأى مريض عادى ثم أدخل للكشف وبعد ذلك يقوم الدكتور حسن بالمطلوب.. وفعلا بمجرد أن دخلت على الدكتور حسن وقدمت التذكرة.. فتح باب حجرة مكتبه وهناك وجدت عزيز باشا فى انتظارى..
حييته وذكرته بلقائنا فى منقباد ثم بدأت أتكلم فى شئون البلد وأحوال الإنجليز وأحوالنا.. لن أنسى أبدًا هذا اللقاء الأول مع عزيز المصرى.. كان مترددًا فى التحدث معى.. وصارحنى بأنه متشكك فى أمرى.. وأنى ربما كنت أحد رجال المخابرات أو أى شىء من هذا القبيل.. قلت له.. لو كان الأمر كذلك لالتقيت بك مباشرة ولكنى كما ترى أتيت إليك عن طريق الشيخ حسن البنا، وأظنك تثق به..
فلما اطمأن سألنى: ما سبب مجيئك وماذا تريد منى؟
قلت: نحن ضباط فى مرحلة تنظيم يهدف إلى طرد الإنجليز من مصر وتغيير الأوضاع فى مصر.. وباعتبارك شخصية عسكرية كبيرة نتطلع إليها جميعًا.. نرجو أن تسمح لنا بأن نرجع إليك من آن لآخر لكى ترشدنا وتفيدنا بخبرتك وتجاربك.
قال: أول درس أقوله لكم.. اعتمدوا على أنفسكم.. ولا تنتظروا أى رائد.. المبادرة يجب أن تأتى منكم أنتم.. نابليون وصل لرتبة جنرال، وكان زعيمًا وعمره سبع وعشرون سنة.. كم سنك أنت؟
قلت: ٢٢ سنة..
قال: عال.. تعاونوا مع بعضكم البعض.. وهذا يكفى..
ثم أخذ يشكو لى من البلد وأنه قد احتك بأناس كثيرين للقيام بأعمال من هذا القبيل ولكن كانوا كلهم نصابين وانتهى الأمر كل مرة إلى لا شىء..
قلت له إننا جادون وإنه سيرى ذلك بنفسه عندما يسمح لنا بمداومة الاتصال به للمشورة وتبادل الرأى..
قال: عظيم.. أول شىء كما قلت.. لابد أن تعتمدوا على أنفسكم.. ثانى شىء الثقافة.. لابد أن تثقفوا أنفسكم.. والثقافة ليست بالشهادات.. الثقافة بالقراءة.. اقرأوا فى كل الاتجاهات وفى كل المجالات.. الشىء الثالث الذى أوصيكم به هو أن تجعلوا تنظيمكم محكمًا بحيث لا يتسرب إليه أى غريب أو تنال منه أية دسيسة.. لقد عانيت الكثير فى حياتى من الخيانات والغدر..
ثم التفت إلى وسألنى فجأة..
ما هى علاقتكم بالإخوان المسلمين ؟
قلت: لقد صارحت الشيخ البنا منذ البداية بأننا نعمل من أجل مصر، لا من أجل أى حزب أو كتلة..
قال: رائع !.. هذه هى نقطة البدء.. سليم.
فى نهاية اللقاء اتفقنا كيف نتقابل وأين.. كان بيته فى عين شمس ولكنه كان مراقبًا من المخابرات المصرية والبريطانية.. قلت إنه يمكننا التغلب على هذا.. فمعنا فى التنظيم بعض ضباط الشرطة، وفعلا كنت أذهب لزيارته فى بيته وأحيانًا كنا نلتقى فى جروبى.. وفى مرحلة من المراحل كان يسكن فى بنسيون بوسط البلد اسمه الفينواز.. وكنت ألتقى به هناك أيضا..
وهكذا استمرت اتصالاتى بعزيز باشا المصرى.. كما لم تنقطع صلتى بالشيخ حسن البنا.. وفى هذه الأثناء كنت أوسع دائرة الضباط الأحرار يومًا بعد يوم..
تلاحقت الأحداث، فقوات هتلر تجتاح أوروبا بسرعة غير متوقعة ومركز الإنجليز يزداد ضعفًا كل يوم وفى كل مكان.. بحيث جعل الفرصة تبدو أمامنا قريبة جدًا لكى نضرب ضربتنا ونتخلص من المستعمر والأحزاب..
فى هذه الأثناء صدرت الأوامر بنقلى إلى مرسى مطروح فى أقصى الشمال كضباط إشارة لآلاى المدفعية.. وهناك تابعت نشاطى بشكل مكثف بين الضباط..
كان الجيش المصرى إلى ذلك الوقت يشترك مع القوات البريطانية فى الدفاع عن الصحراء الغربية ضد قوات المحور، مما جعل مصر طرفًا فى النزاع العالمى رغم أن المحور لم يعلن الحرب علينا.. وأصبحت الصورة بهذا أننا نحارب لحساب إنجلترا مما ينتقص بطبيعة الحال من سيادة مصر التى نصت عليها معاهدة سنة ١٩٣٦.. هذا إلى جانب الشعور العام بأن عدونا الأصلى إن لم يكن الوحيد هو إنجلترا وليست أية قوة خارجية أخرى..
لم يكن الرأى العام فى مصر راضيًا بأى حال من الأحوال عن هذا الوضع، بل كان فى الواقع ساخطًا عليه كل السخط.. ففى حديث دينى لشيخ الجامع الأزهر محمد مصطفى المراغى.. وكان شخصية مرموقة.. قال عبارة أصبحت تتردد على كل لسان.. وهى أنه لا ناقة لنا ولا جمل فى هذه الحرب.. ثم جاء على ماهر رئيس الوزراء فى ذلك الوقت وأعلن فى البرلمان سياسة تجنيب مصر ويلات الحرب.. وهى السياسة التى أقرها البرلمان على الفور وبالإجماع، وبناء عليه صدرت إلينا الأوامر بالنزول من مرسى مطروح وكان هذا معناه أن يتولى الإنجليز وحدهم الدفاع عن القطاعات الثلاثة الموجودة فى المنطقة - وكنا قبل ذلك نتولى نحن الدفاع عن قطاعين منها..
أغضب الإنجليز هذا الإجراء فطلبوا منا تسليم أسلحتنا قبل انسحابنا من مواقعنا.. وهنا ثارت ثائرتى، ولكنى سعدت، لأن هذا الطلب كفيل بتعبئة الشعور العام للضباط ضد الإنجليز وضد قيادة الجيش المصرى التى وافقت على الطلب، فهذه إهانة عسكرية لنا ثم إننا بحاجة إلى السلاح. اتصلت بجميع الضباط، وكانت النتيجة الإجماع على عدم التخلى عن السلاح.. وإذا صمم الإنجليز على تجريدنا منه فليس أمامهم وأمامنا إلا القتال.. ولما علمت إدارة الجيش بقرارنا سلموا بمطالبنا فصدرت الأوامر بالانسحاب مع الاحتفاظ بالسلاح..
كان هذا فى صيف ١٩٤١، وهنا دبرت أول خطة لأول ثورة.. فاتفقت مع جميع الوحدات المنسحبة من مرسى مطروح على أن نلتقى فى وقت محدد عند فندق مينا هاوس فى نهاية طريق الإسكندرية القاهرة الصحراوى وهناك نبدأ بالتجمع وندخل القاهرة فنضرب الإنجليز.. ونستولى على السلطة..
إلى هذا الحد كان الإنجليز فى ذلك الوقت على قدر من الضعف جعلنى وزملائى نقدم على هذه المغامرة دون أن نحسب حساب نتائجها.. نعم.. كانت هناك خطة مرسومة وكانت تفاصيلها كلها معى، ولم يكن للإخوان المسلمين أو لأى تنظيم مدنى آخر أى دور فيها.. ولكن هل كان هذا يكفى؟ المهم أنى أخذت وحدتى من مرسى مطروح وفى قفزة واحدة وصلنا إلى العجمى عند مدخل الإسكندرية.. حيث قضينا ليلتنا وأنا فى غاية السعادة، ففى الغد سوف ألتقى بالوحدات الأخرى عند مدخل مينا هاوس وسوف ندرس الخطة معًا ونوزع الواجبات ونختار الوقت المناسب ثم ندخل القاهرة ونحقق ثورتنا..
ولكن شيئًا من هذا لم يحدث.. فعند مينا هاوس لم تكن هناك أية تجمعات فغسلنا العربات.. وجلست أنا وجنودى فى انتظار الوحدات.. ولكن عبثًا.. لا بد أنهم سبقونا إلى القاهرة.. قلت فى نفسى.. وبعد طول الانتظار.. أمرت وحدتى بالسير إلى معسكرنا فى المعادى.. وهكذا لم تتحقق لنا أول ثورة دبرتها.. ولكن ربما كان هذا من فضل الله.. فلو أن الثورة قامت ثم فشلت لتنبه المسئولون ولشددوا الرقابة على الجيش ولما قامت ثورة ٢٣ يوليو..
أخذت المسألة بروح رياضية ولذلك بدلا من أن يعرف اليأس طريقه إلى قلبى رحت أكثف اتصالاتى بجميع أسلحة الجيش..
واتسعت الدائرة كما لم تتسع من قبل ففى كل يوم كان ينضم أعضاء جدد إلى تنظيم الضباط الأحرار.. كان عبدالمنعم عبدالرءوف نائبى.. وكنا نعقد الاجتماعات فى بيته بالسيدة زينب أو عندى فى كوبرى القبة أو فى فيلا حسن عزت وسعودى بكوبرى القبة أيضًا.. وفى هذه المرحلة بدأنا فى عمل اللجان فكانت هناك لجنة للاتصالات بالهيئات السياسية ولجنة للاتصال بالضباط المنضمين للتنظيم فى الأسلحة المختلفة.. ولجنة ثالثة لا أذكر الآن ماذا كانت مهمتها بالضبط.. وفى نفس الوقت داومت على اتصالى بالإخوان المسلمين وعزيز المصرى.