رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

100 سنة سادات «3».. أتاتورك وراء حبى لـ«البدلة العسكرية».. واعتكفت فوق سطح منزلنا فى القاهرة عام ١٩٣٢ اقتداء بـ«غاندى»

السادات
السادات

عندما جئت إلى القاهرة رأيت فى بيتنا صورة كمال أتاتورك وسألت عنه أبى فقال إنه رجل عظيم.. وكان أتاتورك فى ذلك الوقت مثلا أعلى فى العالم الإسلامى يتردد اسمه على كل لسان فقد قام ليحرر بلاده.. ويعيد بناءه.. وكان والدى شديد الإعجاب به، كما كان معجبا بنابليون الذى حدثنى عنه طويلا، وذكر لى فيما ذكر أنه عندما نفاه الإنجليز فى سانت هيلانة تعمد الحاكم الإنجليزى للجزيرة أن يجعل بوابة بيت نابليون قصيرة بحيث يضطر القائد الفرنسى الأسير أن يحنى قامته فى كل مرة يدخل بيته أو يخرج منه.. ولكن نابليون لم يمكنه من غرضه، فكان يجلس على الأرض ويدخل أو يخرج زاحفًا ولكنه رافع الرأس.
طبعًا هذه لم تكن إلا خرافة.. ولكنها تعكس صورة البطل فى وجدان الشعب المصرى وخاصة إذا كان هذا البطل خصمًا قويًا من خصوم الإنجليز الذين كنا نعانى من احتلالهم بلادنا ونرفض وجودهم بيننا بكل الوسائل التى كانت فى أيدينا فى ذلك الوقت.
من هنا كان إعجابى بسعد زغلول بدليل أننى كنت أخرج إلى شارع الخليفة المأمون كل مساء لانتظار خليفته النحاس باشا عندما ينتقل من بيته فى مصر الجديدة إلى بيت الأمة وعندما يعود.. فقد كنت أرى فى النحاس وفى الوفد فى ذلك الوقت رمزًا لكفاح المصريين جميعا ضد الإنجليز.
لا أستطيع أن أقول إن كان وعيى السياسى قد نضج أو حتى تشكل فى هذه الفترة المبكرة من حياتى.. كنت أشارك طبعًا فى الأحاسيس الوطنية التى كانت تعتلج فى صدر كل مصرى فأخرج فى المظاهرات.. وأسهم فى تكسير الصحون وحرق الترموايات وفى الهتاف بسقوط صدقى باشا وإعادة دستور سنة ١٩٢٣.. دون أن أدرك ماذا كان ذلك الدستور.
ولكنى أستطيع أن أقول إنه إلى أن تركت المدرسة الثانوية كان قد تأصل فى نفسى شعور دفين بالكره للمعتدين، وبالحب والإعجاب لكل من يحاول تحرير بلده.. أذكر أنه فى سنة ١٩٣٢ مر غاندى بمصر فى طريقه إلى إنجلترا.. وامتلأت الصحف والمجلات المصرية بأخباره وتاريخه وكفاحه فأخذت به واستولت صورته على وجدانى، فما كان منى إلا أن قلدته.. خلعت ملابسى وغطيت نصفى الأسفل بإزار وصنعت مغزلا واعتكفت فوق سطح بيتنا بالقاهرة عدة أيام إلى أن تمكن والدى من إقناعى بالعدول عما أنا فيه.. فلن يفيدنى ما أفعله أو يفيد مصر فى شىء، بل على العكس كان من المؤكد أن يصيبنى بمرض صدرى وكان الوقت شتاء قارس البرودة.
وعندما زحف هتلر من ميونخ على برلين ليخلص بلاده من آثار هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى ويعيد بناءها كنت فى ذلك الوقت أقضى الصيف فى القرية.. فجمعت أقرانى وقلت لهم إننا يجب أن نفعل كما فعل هتلر وإننى أنوى الزحف على القاهرة من ميت أبوالكوم.. كان عمرى فى ذلك الوقت ١٢ سنة فضحكوا منى وانصرفوا عنى.
كانت هذه فى أغلبها إرهاصات تلقائية بخط كفاح لم أكن بعد قد تبينته، ولكن من بين هذه الإرهاصات التى كانت فى الحقيقة مجموعة انفعالات وتفاعلات مع الأحداث - بقى لى شىء واحد هو حبى لكمال أتاتورك.. فمن أتاتورك استهوتنى البدلة العسكرية وهو لم يستطع أن يفعل شيئًا ويحقق ثورته إلا بالقوات المسلحة.
كانت أحداث حياتى تسير جنبا إلى جنب مع أحداث التاريخ، كما سبق أن قلت.. فقد انتهيت من إتمام دراستى الثانوية سنة ١٩٣٦ وفى نفس السنة كان النحاس باشا قد أبرم مع بريطانيا «معاهدة ١٩٣٦».. وبمقتضى هذه المعاهدة سمح للجيش المصرى بأن يتسع.. وهكذا أصبح فى الإمكان أن ألتحق بالكلية الحربية.. قبل ذلك التاريخ كان الجيش المصرى ضيق الرقعة، ضئيل الفاعلية، وكان دخول الكلية الحربية مقصورًا على أبناء الطبقة العليا.
ولكن رغم هذه التسهيلات الجديدة التى واكبت رغبتى فى دخول الكلية الحربية لم يكن التحاقى بهذه الكلية- وهو منتهى أملى حينذاك- بالأمر السهل.
صحيح أنهم سمحوا لأبناء الطبقة المتوسطة والفقيرة بدخول الكلية، ولكن كان باستمارة الدخول شرطان.. دخل الأب وثروته ثم الواسطة.. وفى كشف الهيئة كان ينادى رسميًا علينا.. فلان ابن فلان.. وواسطة فلان.
بالنسبة للشرط الأول كان والدى موظفًا بالحكومة، فهو على الأقل عنده دخل ثابت، أما الواسطة فمن أين لى بها ووالدى كما سبق أن ذكرت- مجرد باشكاتب بالقسم الطبى- لا يعرف أحدًا من الباهوات أو الباشوات؟
قالوا له إن رئيس اللجنة التى تقبل الطلبات هو اللواء إبراهيم باشا خيرى ولا بد من الوصول إليه ولكن كيف؟
كان إبراهيم باشا يمثل قمة الأرستقراطية فى ذلك الوقت.. فهو الذى عهد إليه الملك فؤاد بتعليم فاروق فى صدر شبابه الفروسية.. هو إذن معلم الملك، وإلى جانب هذا هو وكيل وزارة الحربية.. ثم إنه متزوج سيدة من العائلة المالكة.. باختصار كان إبراهيم باشا نجمًا من نجوم المجتمع.. فكيف الوصول إليه ونحن لا نملك الوصول حتى إلى سكرتير وزير؟
أخيرًا اهتدى والدى ببساطته المعهودة إلى أنه أيام خدمته فى السودان كان يعرف أحد الصولات.
وتصادف أن كان هذا الصول فى خدمة إبراهيم باشا، فرتب لى ولوالدى- لا أعرف كيف- فرصة للقاء إبراهيم باشا.. وذات صباح توجهت مع والدى إلى قصر الباشا فى حدائق القبة، أحد أحياء القاهرة الأرستقراطية فى ذلك الوقت.
دخلنا الفيلا الأنيقة ووقفنا فى الأنتريه.. هكذا كان الترتيب بحيث لا بد أن يمر بنا الباشا فى طريقه إلى الخروج فنستلفت نظره ويسألنا عما نريد.. وفعلا نزل الباشا بعد قليل.
واقترب منه الصول وهمس فى أذنه ببعض الكلمات.. التفت بعدها إبراهيم باشا إلى والدى وقال له بكل عنجهية:
«آه.. آه.. أنت باشكاتب القسم الطبى.. ودا الولد ابنك اللى.. طيب.. طيب..» ومضى مسرعًا نحو الباب.. وأبى يسير خلفه وهو يتمتم بكلمات لم أدركها ولا أحسب أنه هو نفسه كان يدرك ما يقول.
تجربة لم تبرح وجدانى أبدا، ولا أظن أنى سأنساها مدى الحياة، فقد كانت هذه أول مرة أدخل فيها بيت باشا أو التقى بأحد أفراد هذه الطبقة.. وتشاء الصدف أن ألتقى إبراهيم باشا نفسه بعد ذلك بسنوات وكان ذلك عندما استقبلته فى مكتبى وأنا رئيس مجلس الأمة.. كانت عنده مشاكل خاصة بأبنائه وفرض الحراسة وما شابه ذلك.. فساعدته فى حل جميع مشاكله وبعدها ذكرته بلقائنا الأول فى منزله ولكنى قلت له:
«إياك أن تتصور أن هذا اللقاء ترك فى نفسى أى أثر بالنسبة لك.. بالعكس أرجو أن تعتبر أنى فى أى وقت مستعد لتلبية جميع طلباتك.. فأنا أدين لك بالكثير: لا بالنسبة للقائنا فى قصرك بحدائق القبة.. بل لأنك كنت رئيس لجنة القبول التى أدخلتنى الكلية الحربية، كما أدخلت جمال عبدالناصر وجميع ضباط مجلس قيادة الثورة.. فلولاك ما قامت الثورة..».
متناقضات ومفارقات لا نهاية لها، ولكن لعل أبرزها أن الإنجليز الذين كان هدفى من دخول الكلية الحربية خلاص البلاد منهم هم الذين ساعدونى على الالتحاق بالكلية.
فبعد أن تم لقاؤنا مع إبراهيم باشا خيرى فى قصره كان لا بد أن أجد الواسطة، كما تنص استمارة القبول كما أسلفت... لم يجد والدى أحدًا يلجأ إليه إلا حكيمباشى الجيش المصرى الذى كان والدى يعمل معه وهو إنجليزى اسمه الدكتور فيتس باتريك.. واستجاب الرجل للطلب وكتب التزكية، كما أوصى بى كبير المعلمين بالكلية، وهو عضو لجنة القبول وإنجليزى مثله.
وهكذا قُبلت بالكلية الحربية وكان ترتيبى آخر المقبولين وعددهم اثنان وخمسون وذلك لأن واسطتى كانت أقل الوساطات شأنا.. ففى ذلك الوقت كانت الوساطات تندرج من الأمير محمد على، ولى العهد، إلى الباشوات والباكوات من ذوى النفوذ.
ولكن بعد أن قبلت وذهبت لأدفع المصاريف حدثت مفاجأة لم تكن فى الحسبان.. فقد كان حمدى باشا سيف النصر، وزير الحربية، مع النحاس باشا فى مونتريه لعقد معاهدة إلغاء الامتيازات الأجنبية التى كانت تعفى الأجانب من الخضوع للقانون المصرى «وكان أمرًا شاذًا ومقززًا أن يرتكب الأجنبى الجناية فى مصر فلا تستطيع الحكومة المصرية أن تحاسبه أو تلقى عليه القبض وإنما تملك ذلك سفارته فقط ويحاكم أو يعفى من المحاكمة بمقتضى تلك الامتيازات» أعود إلى القصة فأقول إن وزير الحربية وهو فى مونتريه لما أرسلوا له طلب التصديق على قبولنا بالكلية الحربية، كما يقضى القانون، أرسل برقية يطلب حجز ستة أماكن لبعض أقربائه.. فاضطرت إدارة الكلية إلى حذف أسماء الستة الأواخر، وكنت أنا طبعا أول المستبعدين.
عناء بعد ذلك كثير.. فقد التحقت بكلية الآداب ثم كلية الحقوق فكلية التجارة.. ثم عاد حمدى سيف النصر وألحق أقاربه بالكلية.. وبعدها تدخل حكيمباشى الجيش وكبير المعلمين الإنجليز.. وأخيرًا وبعد أن فقدت الأمل تمامًا.. فوجئت ذات صباح بوالدتى تطلب منى أن أتوجه فورًا إلى أبى فى مقر عمله لآخذ منه مصاريف الكلية الحربية فقد قبلت بها.. وكان قد مضى على دخول أقرانى فى الدفعة ستة وعشرون يومًا كاملة.
فى الكلية الحربية كان أتاتورك مازال مثلى الأعلى.. فبدأت أقرأ عن الثورة التركية.. ورجعت أيضا إلى تاريخ مصر، لكن ليس إلى أبعد من حملة نابليون.. فقد كنت أركز على الاحتلال البريطانى فى سنة ١٨٨٢ والخديعة التى دخل بها الإنجليز مصر وما ترتب عليها من المأساة التى كنا نعيشها.
مصطفى كامل كنت مازلت أحبه ولكنى أخذت عليه أنه لم يلجأ إلى القوة.. وكان إيمانى أن الإنجليز لن يخرجوا إلا بالقوة.
ولكن هل كان الإنجليز هم المدانين وحدهم؟
ماذا عن العائلة المالكة وهى أجنبية؟ وماذا عن الخديو توفيق واستعراضه للجيش الإنجليزى فى ميدان عابدين وكأنه بذلك يقر شرعية الاحتلال الإنجليزى فى مصر بعد هزيمة الجيش المصرى بالخديعة عام ١٨٨٢؟
إن نظام الحكم كان المسئول عما حدث ويحدث لنا.. ففى حادث دنشواى مثلا كان القاضى والمحامى والنيابة كلهم من المصريين.
وهذه التساؤلات بدأت تطرح نفسها على الواحدة بعد الأخرى.. بدأت مداركى تتفتح على الأوضاع شيئًا فشيئًا وبت أنتظر يوم تخرجى فى الكلية الحربية بفارغ الصبر حتى أستطيع أن أفعل شيئًا.. فقد كنت أزخر بالعديد من الأمانى والآمال لمصر، ولكنها كانت كلها مازالت حبيسة فى صدرى لم تُترجم بعد إلى واقع.