رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الغبار

جريدة الدستور

السماء صافية، الشمس مشرقة، الطقس دافئ اليوم على عكس الأيام الفائتة التى قرصتنا فيها البرودة الشديدة، مما جعلنى أشعر بحالة نشاط غير عادية، ارتديتُ ملابسى الشتوية، بنطال (القبردين)، تحته (كالسون) صوف، قميص أسود اللون، وفوقه (السويتر) الجلد، حقيبتى فى يدى، تحوى الأوراق الخاصة، شوارع القرية تزدحم بتلاميذ المدارس حاملين حقائبهم، يسيرون جماعات بالزِّى المدرسى المميَّز، عُمَّال شركة التعدين فى انتظار الأتوبيس الخاص بهم، المدرسون والموظفون فى الطريق إلى أعمالهم، من الصعب ركوب السيارة الميكروباص، آلام الظهر تعاودنى من وقت لآخر، مررتُ على ناظر المحطة أسأله عن القطار المتجِّه إلى أسوان، أخبرنى بأنه بعد نصف ساعة سيمر القطار المميَّز، قلت لا بأس القطار أفضل، جلست على أول مقعد، أخرجت علبة السجائر من جيب (السويتر)، أشعلت سيجارة، لحظات وزعق القطار مُعلنًا دخوله المحطة، نزل عدد قليل من الركاب وصعد آخرون كنتُ واحدًا منهم، العربة التى دخلتها مكتَّظة بالركَّاب، اتجهتُ للعربة التالية بحثًا عن مقعد خالٍ، عثرتُ على مقعد خالٍ قبل أن أجلس عليه فاجأنى أحد الجلوس:
معلهش فيه واحد قاعد هنا يا أستاذ، وصل للحمًّام وجاى.
تساءلت فى داخلى هو القطار ده فيه حمَّام، تركته وواصلت البحث عن مقعد آخر، لمحت البعض ينام على مقعدين دون مُبالاة بالآخرين الذين يبحثون عن مقعد خالٍ مثلى، فى العربة قبل الأخيرة وجدت مقعدًا خاليًا، جلستُ عليه، ما زال وخَم النوم يخيِّم على معظم الوجوه الراكبة، الباعَة لا يتعبون، فى حركة دائبة ومستمرة يعرضون بضاعتهم، حتى كُروت (الموبايل) تباع داخل القطار، ولد صغير يحمل برَّاد شاى كبيرًا يحاول إقناع الركَّاب بشُرْب شاى الصبح، هذا المشهد ذكَّرنى بمقولة أحد أصدقائى عندما قال إن القطار المميَّز ما هو إلا سوق متحركة، قبل أن أقطع التذكرة سألت الكمسارى ذا الوجه المكفهِّر:
لماذا أطلقتم اسم المميَّز على هذا القطار؟
لأن مقاعده مميَّزة وشبابيكه سليمة يا أستاذ
نظرت إلى المقاعد لم أجد فيها شيئًا مميزًا، مُعظم الشبابيك متهالكة، الأرفُف غير صالحة للاستعمال، القاذورات تملأ الطُرقة، كل شىء فى القطار يُشعرك بالقَرَف والضِّيق، منذ فترة طويلة لم أركب مثل هذا القطار، فى سفرى المتواصل إلى القاهرة أركبُ القطار المكيَّف، أخرجت بعض الأوراق من حقيبتى أتفحَّصُها، كى أقتل الوقت، فجأة احتدمَ النقاش بين بائع (السندويتشات) وأحد الركَّاب، سريعًا تصاعد الاحتدام حتى وصل إلى حالة من الهرج داخل العربة، تعالت الأصوات، بدأتُ أشعر بحالة من القلق والتوتر، غادرتُ هذه العربة مسرعًا للخلف، العربة الأخيرة هادئة بالرغم من اكتظاظها بالركَّاب، حاولت العثور على مقعد، انتظرت ربَّما فى المحطة القادمة ينزل أحد، قبل الوصول إلى محطة كلابشة، نادى أحد الشباب علىَّ:
اتفضل اقعد يا أستاذ
شكرًا يا كابتن خليك قاعد أنا مرتاح
اقعد، أنا سأدخن سيجارة بجوار الباب
جلست، كان بجوارى رجل يكحُّ بشدة، ثم يبصقُ على الأرض، زوجته التى تجلس فى مقابلته تُعطيه كوب ماء، ربَّما تهْدأ حالة الكُحَّة المستمرة، بالرغم من شعورى بحالة من الضيق إلا أنَّنى تمنيتُ له الشفاء، القطار يتأهَّب لدخول محطة كلابشة، لمحتُ أسرة كانت تجلس على أربعة مقاعد تُغادر المقعد استعدادًا للنزول، قمت واقفًا، تخلَّصت من هذا المقعد، ناديتُ على الشاب الشهْم الذى أجلسنى مكانه كى يعود إلى مقعده، لكنه جلس بجوارى، يبدُو أنَّه مثلى يحاول التخلُّص من هذا المقعد ومن كُحَّة الرجل وبصْقه على الأرض، رنَّ هاتفى المحمول من داخل الحقيبة، أخرجتُه، كان أحد أصدقائى يستعجل حضورى، أخبرتُه أننى ما زلت فى القطار وأمامى ساعة أو أقل على الوصول، الشمس تحجبُها غيوم كثيفة، يأتى الهواء باردًا من نافذة القطار،أحتاجُ إلى فنجان قهوة، لم يكن معى سوى علبة السجائر، تشعرنى بالدفء شيئًا ما، الباعة لا يهدأون، أصواتهم مزعجة ومنفِّرة، ما زال القطار ينْهش الطريق.
بعد نزولى من القطار جلستُ على مقعد المحطة كى أنفض الغُبار العالق بثيابى واستعيد بعضًا ممَّا نسيتُ.