رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العدو فى الصباح

جريدة الدستور

ليلة ننتظرها من ليالى الشتاء يدق المزمار البلدى والطبلة فنتراقص أنا وأمى على الأنغام العذبة المتسللة من بين الأشجار، نرهف السمع ونغيب ندور ونرمى بأوجاعنا وهمومنا إلى هذا الصباح العنيد الذى لا يفتأ أن يأتى سريعًا..».
تحت شجرة وارفة الظلال وخلف أشهر مسجد بالقرية أقف مستندًا إلى سور حديدى يفصلنى عن بيت صاحبى الواطئ والمسقوف بالعروق الخشبية أقلب بصرى ناحية الشارع وأسمع أصوات الضفادع والأحاديث التى تسرى بالليل من النوافذ المفتوحة، ولكم أفزع حين أرى المخلوقات التى تسير بجوارى منها ما ينبح ومنها ما يموء، فعندما يأتى الليل تنام العيون، أما أنا فأظل على تلك الحالة كل شىء يبقى مكانه هذا الطوق المحكم والملتف بقوة حول رقبتى أصبح لا ينفك عنى ولا أنفك عنه. أصوات أقدام المارة تخفت كلما مر الوقت وتتلاشى شيئًا فشيئًا حتى يطلع النهار. الوقت يمضى ثقيلًا، ولا أجد ما يجعلنى مستيقظًا سوى صراخ صاحبى وولده الصغير وتعنيفه المستمر بأنه لا يجيد العمليات الحسابية الصغيرة وأكثر من مرة يعطى الزبون نقودًا زيادة. يبصق عليه ويلعنه مئات المرات ولا تسلم الزوجة أيًا كان موقعها فى البيت من هذا البزاق المتطاير، وتلك اللعنات القائمة المرددة طوال الليل. تقف ابنة صاحبى الصغيرة تمسح على ظهرى، وهى تمسك بدميتها المهترئة تحاول أن تعتلينى فلا تستطيع تعيد المحاولة مرات ومرات حتى تتعب وتتهدج أنفاسها فتأتى بكرسى خشبى لتقف عليه ثم تضربنى بقدميها النحيلتين رغبة منها فى أن أسير بها، لكنها لا تعلم أننى مقيد، تثور وتشتمنى وتنزل لتأتى بعصا غليظة تضربنى ويزداد حنقها وصراخها حتى تتيقن أنه لم تعد هناك فائدة ترمى بالعصا فى وجهى وتسير بخطوات مسرعة لتصعد الدرج.
أما زوجة صاحبى فتأتى كل يوم لتنظف تحتى وتزيل الفضلات التى تملأ الأرض ثم تأتى بوعاء به ماء لكى أستحم تأتى بليفة خشنة ثم تنظفنى جيدًا، وكنت أشعر بالسعادة حين تصفر لى حتى آكل وأشرب بعدما تنتهى من نظافتى، كانت تأتى بانتظام لأنها لو لم تأتِ ستكون العاقبة وخيمة من ضرب وسب وطرد إلى بيت الأهل كنت أحبها كثيرًا، وأشعر بأن بيننا شيئًا مشتركًا، وهو الرضوخ لما يريده صاحبى.
يفد إلينا الكثير من الرجال والنساء والدواب إذا كان يوم السوق، ولا أنسى ذلك اليوم الذى حمل فيه الرجل الشاه العجفاء الصغيرة أمسكها بعنف من أذنها فقطعت وانساب الدم منها وظلت تصرخ طوال النهار فليس لها إلا الانصياع والرضا هى وكل حيوانات السوق كان يقف بجوارى يصر أن يبيعها، وكل زبون يأتى يجدها على تلك الحالة يعزف عن شرائها حتى جاء من أخذها بسعر زهيد وضع الرجل النقود فى جيبه ومضى لا يلوى على شىء، وظل صراخها يتلاشى شيئًا فشيئًا حتى غاب الرجل وسط الزحام.
حينما أرى صاحبى أشعر بالغيظ المكتوم، لأنه قتل أمى وألقاها بجرف الترعة، لأنها كبرت وابيضت أسنانها، وأصبحت غير قادرة على السير طوال النهار «فنحن إذا ابيضت أسناننا هرمنا». كانت تلك الليلة التى لم تتنهِ بعد ما زلت أتذكرها بكل تفاصيلها حين وضع الطوق فى رقبة أمى، وألهب ظهرها بالسياط، وأمرها أن تجر العربة فى تلك الرحلة اليومية الشاقة فسارت بطيئة بطء السنوات القاسية التى تحملتها معه، وهى مقيدة فى هذا الطوق لا تستطيع الشكوى أو الرفض، لأننا جبلنا على ذلك وعندما عاد قرر التخلص منها، لأنها لم تعد تتحمل العمل، وستستهلك طعامًا وشرابًا من دون فائدة سمعت صوت الطلقات، وهى تخترق جسدها، ولم يكتفِ بذلك بل رفعها على العربة وقيدنى بالطوق وألهب ظهرى بالسياط، وسرت وأنا أحملها حتى وصلنا إلى جرف الترعة ثم ألقاها وعاد بى إلى موضعى وهو لا يكترث.
فى الناحية المقابلة من بيت صاحبى تقف «عزة» أمام بيت صاحبها والذى يدللها كثيرًا ويطعمها السكر وكل حين يخرج من بيته ليطمئن عليها كانت تقف مشدودة القامة مرفوعة الرأس يداعب النسيم خصلات شعرها المنساب برقة ووداعة على ظهرها وتنفذ إلى أعماقى رائحتها فأغمض عينى وأغيب معها فى عوالم خفية، وكنت أحدثها طوال الليل، ونحمد الله أن صاحبى لا يفهم ما أقول فلا يصل إلى أسماعه سوى صهيل مبهم.
كان كل ما فيها يرجونى لكى أتحدث إليها بحت صوتها الذى يتردد على أسماعى طوال النهار، وأنا مع صاحبى أغمض عينى وأحاول تذكر ما قلناه ليلة أمس لعله العزاء الوحيد حتى تنتهى مهمتى الصباحية وأعود لأحدثها ليلًا كانت تشفق علىّ كثيرًا، لأنها لا تعمل ولا يقيدها صاحبها مثلى، وأكون فى غاية السعادة إذا كان هناك فرح فى القرية فيتناهى إلى أسماعنا صوت الطبلة والمزمار فنرقص ونتمايل حتى الصباح.
فى تلك الليلة لم تكن «عزة» مثل سابق عهدها كانت تقف محنية الرأس، ولا تتحدث حاولت أن أعرف منها ماذا حدث فلم ترد فوقفت تلك الليلة حائرًا حزينًا، وفى الليلة التالية جاءتنى «عزة» ووقفت إلى جوارى، وقالت بصوت مكتوم أشبه بالبكاء المتقطع:
«بالأمس ذهبت مع صاحبى لبيت لم أذهب إليه من قبل كان صاحبى يربت على ظهرى بين الحين والآخر، وحينما وصلنا استقبلنا رجلًا يمسك بذكر قوى البنية لا ينقطع عنه الصهيل بالرغبة، ضحك الرجل وقال: لا تتعجل بضعة أشهر تمر سريعًا وستنجب لك «عزة» ما تريد. كنت أتصبب عرقًا تتلاحق أنفاسى بوقع رتيب، فالصمت قهر والصهيل لن يسمع ولن يفهم كان بداخلى نار تستعر تتلوى لتمسك بصاحبى، وهذا الذكر وصاحبه تمنيت أن أكون فراشة أطير بجناحين ناحية الضوء الذهبى المشع من الشمس، حاولت الابتعاد أو الركض كتعبير عن عدم القبول غضب صاحبى وضربنى بقسوة وهذه أول مرة يضربنى قيدنى بعنف وجاء الذكر اللزج ليخترقنى بكل ما أوتى من قوة شعرت بالرغبة فى القىء، وحررنى صاحبى من قيد هذا الذكر اللزج وعدت إلى البيت وأنا أشعر بالدوار».
وما إن أكملت حديثها حتى أجهشت بالبكاء ومضت تقف أمام بيت صاحبها.
مضت عدة أشهر وانتفخت بطن «عزة» ولم نعد نتحدث ولا نتراقص على أنغام المزمار والطبلة، ولم تعد كسابق عهدها تغير شكلها ولم تعد تصدر منها رائحتها الذكية ثم وضعت لصاحبها «عنتر» كما أسماه صاحبها.
«ليلة كنت أنتظرها ليدق المزمار والطبلة البلدى مرة أخرى لأرقص وأدور وتنهمر فى عينى الدموع وأنا أواصل الرقص وتدور معى كل الأحداث والنوائب.. أمى قتلها صاحبى وألقاها بجرف الترعة.. الشاه العجفاء وصاحبها.. عزة والذكر الذى جعل بطنها تنتفخ وتصدر منها رائحة كريهة.. أتابع الرقص حتى ينتهى العرس، وأعاود الوقوف والانتظار».
فى الصباح يعود الطوق يؤلمنى وأشعر بأن شيئًا ساخنًا أحمر اللون يسيل من فمى وأنفى وعلى ظهرى، فلا أدرى ماذا أفعل حتى أتى صاحبى وقيدنى بالعربة ثم يختار دائمًا مكان الألم، وعند الشىء الذى كان يسيل منذ البارحة ضربنى بقوة ولعننى ولعن نفسه لنبدأ يومًا جديدًا. أخرج صوتى ألمًا وأعاود المسير.