رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زمن الاغتيالات الجميل!


التاريخ الرسمى لجهاز المخابرات البريطانى الداخلى «MI5» رواه كريستوفر أندرو فى كتاب عنوانه «حماية المملكة»، صدر فى أكتوبر ٢٠٠٩، وكان أبرز ما فيه هو وصفه الرئيس الليبى الراحل معمر القذافى بأنه كان الخصم «الأشرس» الذى واجهه الجهاز طوال تاريخه!.
ما جعل «القذافى» هو الخصم الأشرس، لم يكن دعمه، ماديًا وعسكريًا، لـ«الجيش الجمهورى الأيرلندى»، الجيش الأحمر، الذى حارب من أجل انفصال إقليم أيرلندا الشمالية عن بريطانيا. كما لم يكن قيام ليبيين بتفجير طائرة «البانام» الأمريكية فوق مدينة «لوكيربى» الإسكتلندية، أى فوق الأراضى البريطانية. أما السبب، فكان نجاح الرئيس الليبى الراحل فى اصطياد معارضيه الذين لجأوا إلى عاصمة الضباب، عبر سلسلة طويلة من النشاطات التجسسية وعمليات الاغتيالات، قامت بتنفيذها السفارة الليبية فى لندن التى كانت توصف بـ«المكتب الشعبى الليبى». وعليه، احتل القذافى موقعًا بارزًا فى الكتاب المشار إليه، لم ينافسه فيه إلا الرئيس العراقى الراحل صدام حسين. وطبيعى أن يكون للموساد، جهاز المخابرات الإسرائيلى، نصيب من العمليات، توقف الكتاب عن بعضها وتجاهل البعض الآخر!.
كريستوفر أندرو، مؤرخ بريطانى مرموق، وهو أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة كامبريدج، وزميل الجمعية التاريخية الملكية، وأستاذ زائر سابق للأمن القومى بجامعة هارفارد، ويؤمن بأن معلومات أجهزة المخابرات تشكل البُعد الضائع فى كتابة التاريخ‏.‏ لذلك عندما واتته الفرصة للبحث عن هذا البعد الضائع‏،‏ أمضى نحو عشرين عامًا فى الاطلاع على الملفات السرية لجهاز المخابرات البريطانى الداخلى‏.‏ وجمع خلاصة نحو أربعمائة ألف ملف سرى‏، فى ذلك الكتاب الذى صدر بمناسبة الذكرى المئوية لإنشاء الجهاز. وقد تكون الإشارة هنا مهمة «أو لا تكون» إلى أن الجهاز تأسس سنة ١٩٠٩ ولم تعترف السلطات البريطانية بوجوده إلا سنة ١٩٨٩، أى بعد ٨٠ سنة من جهود الجهاز الخفية لـ«حماية المملكة»، على حد زعمهم!.
قبل صدور الكتاب بشهور قليلة، كشفت السلطات البريطانية عن ملف خاص يتعلق بمحاولة اغتيال ليبية تم إجهاضها، سنة ١٩٧٨، ضد محمود سليمان المغربى، السفير الليبى لدى لندن، الذى كان أول رئيس وزراء للجماهيرية، بعد ثورة الفاتح من سبتمبر أو بعد الانقلاب العسكرى الذى قاده القذافى سنة ١٩٦٩، ضد الملك إدريس السنوسى، آخر ملوك ليبيا.
المغربى كان سياسيًا ليبيًا بارزًا. وعندما قامت الثورة «أو وقع انقلاب القذافى»، كان فى السجن مع مجموعة من معارضى السنوسى، فتم إطلاق سراحه واختاره القذافى رئيسًا للوزراء. لكنه لم يستمر فى منصبه طويلًا، وطلب إعفاءه بسبب عدم رضاه عن الطريقة التى كانت تُدار بها الأمور فى ذلك الوقت. وخوفًا من أن يمارس نشاطًا معارضًا أو معاديًا، تم تعيينه مندوبًا لليبيا فى الأمم المتحدة، ثم سفيرًا فى بريطانيا، وهناك، جرت محاولة الاغتيال التى نجح الـ«MI5» فى إجهاضها، وتم إلقاء القبض على الفريق الليبى الذى ذهب خصيصًا من طرابلس إلى لندن لتنفيذ العملية. وكرد فعل طبيعى استقال المغربى من منصبه، وقضى بقية حياته لاجئًا سياسيًا فى لندن مع زوجته وأبنائه، إلى أن مات فى ١٧ يوليو ٢٠٠٩ بأحد مستشفيات دمشق، بعد صراع مع المرض، ونعاه «الأخ العقيد» معمر القذافى فى بيان رسمى، نشرته وكالة أنباء الجماهيرية!.
هذه العملية كانت بداية استثنائية لسلسلة طويلة من النشاطات الليبية داخل بريطانيا، إذ توالت بعدها عمليات تصفية المعارضين بشكل أزعج السلطات البريطانية ولطخ سمعة أجهزتها الأمنية، لعدم نجاحها فى اكتشافها قبل وقوعها، مثلما نجحت، على سبيل الاستثناء، فى اكتشاف وإجهاض محاولة اغتيال المغربى. وبين المعلومات المرعبة التى وردت فى الكتاب، أن «المكتب الشعبى الليبى» فى لندن، كان لديه مسحوق سام، تم استخدامه، مرة على الأقل، ضد معارضين ليبيين كانوا يقيمون فى مدينة بورتسموث. واللافت أن بريطانيا لم تأخذ حقًا أو باطلًا، بعد كل العمليات، أو حتى بعد أن سقطت الشرطية البريطانية إيفون فلتشر سنة ١٩٨٤، برصاص قناص من داخل السفارة الليبية، خلال فض مظاهرة لمعارضين ليبيين. مع أن المخابرات البريطانية اعترضت اتصالات تؤكد أن إطلاق الرصاص تم بأمر مباشر من القذافى!.
.. وتبقى الإشارة إلى أننا لم نعد إلى ذلك الزمن، زمن الاغتيالات الجميل، إلا احتفاءً واحتفالًا بحصولنا على نسخة من كتاب كريستوفر أندرو الجديد The Secret World: A History of Intelligence أو «العالم السرى: تاريخ للمخابرات» الذى يواصل فيه التأكيد على قناعته بأن تاريخ العمل المخابراتى، الذى غالبًا ما يساء فهمه، هو البُعد الضائع فى كتابة التاريخ وجزء أساسى من السياق التاريخى الكلّى. وتلك هى خلاصة رحلة المؤرخ البريطانى الطويلة فى البحث والتأمل والتفكير والمقارنة.