رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبير جمال تكتب: أهدانى الله حمامة بيضاء

عبير جمال
عبير جمال

تسكن تحت شباكى حمامة بيضاء، كانت تطير وتحلق أمام كل الشرفات صالت وجالت صعودا وهبوطا، ثمانية طوابق تسبقني وثلاثة تأتى بعدى ولكنها استقرت أمام شرفتي، وعلى كمرة خرسانية عرضها لا يزيد على بضعة سنتيمترات وضعت أول بيضتين لها. كنت أخشى عليها ولكنها كانت مطمئنة تماما، فزوجها يقف أمامها حاميا لها إذا استشعر أي خطر يقترب منها ويخبئها خلف جناحيه، أو يأخذها ليطيرا بعيدا عن الخطر.
ثمانية عشر يوما ترقد فيه حمامتي على بيضها، يخرج وليفها صباحا ساعيا وباحثا عن الرزق فلا يخذله ربه ويأتي ملء فمه حبوبا مرات وماء مرات أخرى فيطعمها ويرويها ثم يتبادلان الرقود على بيضهما، لا يترك لها هذه المهمة المملة وحدها فهو يعلم أنها حتى وإن كانت أنثى تبيض وترقد فهى فى النهاية مثله طائر اعتاد على التحليق في سماء الله الواسعة ولا طاقة لها بتحمل الرقود كل هذه المدة، ولا يكتفى بذلك بل يشاركها فى رعاية صغاره حتى يشتد عودها.
أكثر من عامين امتلأ فيه مسقط بنايتنا بأزواج من الحمام ولكن حمامتى لم تغير عنوان إقامتها، ما زالت تسكن تحت شباكى، توقظنى صباح كل يوم على صوت هديلها الذى كنت أظنه فى البداية مزعجا حتى أحببته وتعودت عليه بل أدمنته..أحببتها كثيرا وقررت أن أعتنى بها، علقت لها قفصا خشبيا بحبل من المنتصف حتى يتحرك بشكل آمن وانسيابى ووضعت فيه حفنة من قش الأرز وطبق من الفخار ملأته بالذرة العويجة وطبق آخر به ماء، لكنها كانت دائما ساعية لم تتوكل علىّ قط، فتترك ما وضعته لها وتخرج مع زوجها لتحضر طعامها الذى اعتادت البحث عنه كل يوم.
ظلت حمامتي وزوجها ملاصقين تماما لشباكي، يحلقان فى سماء الله الواسعة ثم يعودان في النهاية إلىّ حتى أغوياني لحبهما وحولا المكان لـ"غيّة" من عند الله مليئة بالحمام، فكانت هذه هي رسالة ربى الأولى، ودرسه الأهم الذي أراد أن يلقني إياه لعلى أبصر وأفهم وأتعقل، تعلمت منهما أن الحب احتواء وعطاء وإخلاص وتفانٍ، رأيت بينهما مودة ورحمة لم أر مثلها بين البشر القاسية قلوبهم.
أعلم أنا ويعلم الجميع جيدا أن طائر الحمام على مر التاريخ يرمز إلى الحب منذ أن كان بريدا للعشاق يحمل إليهم رسائل الحب، ويرمز إلي السلام منذ عادت حمائم سيدنا نوح التي أطلقها لتكتشف عودة الحياة إلى الأرض بعد انتهاء الطوفان  حاملة غصن الزيتون، ويرمز للأمان منذ أن رقدت الحمامتان أمام غار حراء لتحفظا سيدنا محمد، ولكنى لم أكن أعلم أن الحمام أوفى من البشر أحيانا فهو من الطيور التي تتزاوج لتعيش مع شريكها مدى الحياة، وأحن منهم أحيانا كثيرة، فتمنيت لو أتيت بهم أو بأحدهم ليرى بأم عينه قصة طائر وفي يسعي لإسعاد شريكه وتخفيف أوجاعه وآلامه وتعبه وهمه فى فيلم درامى رومانسي أخرجه المولى عز وجل. 
في بداية العامين كنت تائهة، أبحث عن شىء لا أعرفه وشغف ضاع منى وهدف أجهل طريقه وحلم مشوه غير واضح المعالم، ربما تاه من طول طريق الوصول إليه،ولكنى تعلمت من حمامتي دون أن أدرى أن رزقي لن يأخذه غيري، فحمامتي تخرج فى الصباح خماصاً وتعود بطاناً حتى وإن تأخرت فى العودة، وتعلمت أن السعي يجب ألا يتوقف حتى وإن كانت نتائجه مستترة، وأدركت أن الله يرسل النذر والإشارات لكننا في أحيانا كثيرة نغض النظر عنها ولا نعيها رغم أنها جاءت لتطمئن وتربت وتهدئ وتنبئ بالخير، وأدركت أيضا أن ربى أهداني حمامة ليعلمني بها ما نسيته أو تناسيته، وليسعدني ويطعمني بلا حول لي ولا قوة من أجود أنواع الحمام وأغلاه، وأدركت أن رسالته جاءت فى الوقت الذي ضاقت الحياة في وجهي ليطمئنني ويطيب وجعي ويمسح الحزن عن قلبي..كل ذلك فقط بحمامة بيضاء.