رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ضبط الحياة الأسقفية!!


كثُر الحديث الآن عن «ضبط الحياة الرهبانية»، وكأن الحياة الرهبانية أصبحت بلا ضابط وبلا قوانين وبلا ضمير!!، مع أن المتسببين فى هذا الخلل معروفون ويُشار إليهم بأصبع الاتهام!!، هل ألقاب صاحب القداسة وصاحب النيافة والحبر الجليل.. إلخ، مجرد ألقاب أم حياة حقيقية؟ للأسف من بين الألقاب التى أضيفت فى الفترة الأخيرة- ربما بعد عام 1972- إلى بطريرك الكنيسة القبطية هو لقب «الرئيس الأعلى للرهبنة»!!، مع أنه من المفترض أن يكون الرئيس الأعلى للرهبنة هو مؤسس الرهبنة القديس أنبا أنطونيوس.
فإن كان الرئيس الأعلى للرهبنة غير ملتزم بحياة الفقر الاختيارى والتجرد والزهد والنسك.. إلخ التى هى من صفات الراهب، فكيف نتوقع أن الراهب الحديث فى رهبنته يحيا فى تلك الفضائل؟. وإن كان كثير من الأساقفة يملكون سيارات بأشكال وأنواع مختلفة وأسعار خيالية ويقيمون فى قصور، وليس قلايات، كيف أحاسب الراهب؟، فلنبدأ أولًا فى ضبط الحياة الأسقفية. أعرف رهبانًا كثيرين لا يملكون أى شىء، هؤلاء رهبان صادقون. والبابا كيرلس السادس نفسه كانت لديه حجرة صغيرة بدير مار مينا بمريوط «قلاية» بمعنى كلمة قلاية، كم اصطحبته إليها فى فترة مرضه، ولم يقم ببناء قصر فى الدير الذى بناه، لأنه راهب زاهد.
فى فترة حبرية البابا كيرلس السادس (1902 – 1971) البطريرك 116، الذى جاء إلى البطريركية طبقًا للقوانين الكنسية العريقة، فكان مسنودًا بصلوات آباء الكنيسة الأولين، كما أن القرعة الهيكلية التى أشرف عليها المطران القديس الأنبا أثناسيوس، مطران كرسى بنى سويف والبهنسا فى 19 أبريل 1959 كانت قرعة نزيهة جدًا لم تشُبها شائبة واحدة، فشعر الناس بارتياح شديد، بل كان لديهم شعور حقيقى أن السماء أتت لهم بهذا الرجل القديس الذى كان عصره بحق من «أزهى عصور الكنيسة القبطية»، وقال آخرون «سنوات مجيدة فى تاريخ الكنيسة»، وقالت المؤرخة القديرة الأستاذة إيريس حبيب المصرى «فترة من البهاء». وعلى الرغم من مرور 47 عامًا على رحيله المفاجئ والمُحزن فى 9 مارس 1971 إلا أن الشعب القبطى بأجمعه مازال يشعر بصدق وجوده وسطهم.
ارتباط أقباط مصر بالبابا كيرلس السادس يعود إلى أيام رهبنته الجادة فى دير البراموس ثم فترة رئاسته لدير الأنبا صموئيل بجبل القلمون ثم توحده فى إحدى طواحين الهواء بمصر القديمة ثم بعد الحرب العالمية الثانية ذهب للتوحد بكنيسة مار مينا بالزهراء، آخر مصر القديمة. رهبنته الجادة جذبت إليه أصحاب الشهادات العلمية بينما هو راهب فقير لم ينل الكثير من العلم ولكنه كان رجل الله بحق، إذ وجدوا فيه رائحة عطرة لآباء الرهبنة الأولين، فتركوا شهاداتهم الجامعية وذهبوا ليتتلمذوا على يديه. كان أول هؤلاء هو الصيدلى د. يوسف إسكندر، الذى كان يملك أشهر صيدلية فى دمنهور باسم «صيدلية مصر»، باع الصيدلية ووزع حصيلة البيع على الفقراء وذهب فقيرًا ليتتلمذ على يد الراهب البسيط الأب مينا البراموسى المتوحد بدير الأنبا صموئيل فى عام 1948. وبعد شهر تبعه المحامى سعد عزيز. ترهب الأول باسم الأب متى المسكين وترهب الثانى باسم الأب مكارى السريانى.
فى عام 1943 اجتمع نفر من شباب الإسكندرية الجامعى ليؤسسوا جمعية ثقافية بالإسكندرية تهتم بدراسة وإحياء التاريخ القبطى. وبعد تفكير اتفقوا جميعًا على التوجه لمقابلة الراهب الناسك الأب مينا البراموسى المتوحد بطاحونة الهواء بمصر القديمة لمناقشته فى هذا الأمر. كان من بين هؤلاء مفتش الآثار المصرية الأستاذ بانوب حبشى، والطبيب السكندرى د. منير شكرى، والمتخصص فى رسم الآثار المصرية الأستاذ بديع عبدالملك، وطبيب الأسنان د. فتحى الملاخ، والمحاسب القدير الأستاذ ملاك ميخائيل، وغيرهم، جميعهم من حملة الشهادات الجامعية، لكنهم ذهبوا ووضعوا أنفسهم تحت فكر وتدبير الأب مينا البراموسى المتوحد، وتناقشوا معه فى أمر هذه الجمعية، وطلبوا منه أن يدلهم على اسم للجمعية، فأشار عليهم باسم «جمعية مار مينا». فى ذلك الوقت كان اسم القديس مينا غير معروف ولا متداول بين الناس!!، فقال لهم بحكمته- المعطاة له من السماء- إن كل فرد منكم ينجب طفلًا يطلق عليه اسم «مينا» وكان من أوائل تلك الأسماء- بنصيحته الأبوية- مينا بانوب حبشى، مينا جورج غالى، مينا بديع عبدالملك (تبعًا لأعمارهم). حتى إن تلك الواقعة صارت معروفة عند الكثيرين بالإسكندرية. وفعلًا تأسست الجمعية فى نوفمبر 1945. ثم قام ببناء بيت للمغتربين بجوار كنيسة مار مينا بمنطقة الزهراء، وسكن فى هذا البيت من انخرطوا بعد ذلك فى الرهبنة ومن صاروا أساقفة.
كانت رهبنة الأب مينا البراموسى المتوحد رهبنة جادة منذ أن ذهب للرهبنة فى 27 يوليو 1927 (وهو يبلغ من العمر 25 عامًا)، وعندما اختير للبطريركية فى 10 مايو 1959 لم تغير منه البطريركية شيئًا، بل ظل هو الراهب البسيط والناسك الحقيقى فى ملبسه ومأكله ومشربه، وحياة الصلاة اليومية التى لم تفارقه ساعة واحدة. حتى إنه عندما ذهب إلى إثيوبيا فى زيارتين فقط (لا ثالث لهما) كان يتوجه من المطار ليقيم صلاة فى إحدى الكنائس الإثيوبية. فكانت الصلاة هى حياته. لذلك كل من التصقوا به بصدق أحبوا فيه تلك الفضائل الرهبانية السامية ومنهم من ظل متمسكًا بتلك الحياة النسكية الصادقة فى حياتهم الخاصة. وللارتباط الشديد من السكندريين بالبابا كيرلس السادس لأنه أسقف الإسكندرية الحقيقى، قام بعض شمامسة الإسكندرية بإعداد تمجيد كنسى يُقال باللغة القبطية عن البابا كيرلس جاء فيه: «تمتعت بإيمان أبينا إبراهيم، وصرت قربانًا مثل أبينا إسحق، ولك شيخوخة أبينا يعقوب، وعشت صوم موسى، نلت كهنوت هارون، التحفت بطهارة سمعان الشيخ، وتمتعت ببخور زكريا. الأنبا كيرلس المُكرّم الراعى الحقيقى صرت معلمًا للمسكونة». كانت تلك هى الأوصاف الحقيقية التى رأيناها فى البطريرك الناسك البابا كيرلس السادس، الذى كان قدوة حقيقية لجميع الرهبان ولشعبه.
ماذا حدث حتى تكون هناك حالة عدم انضباط بين الرهبان؟، هذا هو الواقع المؤلم الذى نعيش فيه حاليًا!!، القديس بولس الرسول- أكثر الرسل تعبًا فى الرهبان؟، هذا هو الواقع المؤلم الذى نعيش فيه حاليًا!!، القديس بولس الرسول- أكثر الرسل تعبًا فى الخدمة والكرازة- قال فى رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: «أقمع جسدى وأستعبده، حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسى مرفوضًا».
‎من سمات الكنيسة القبطية أنها «كنيسة نسك»، ولا عودة لتلك الأوصاف إلا بالتزام الأساقفة (بطريرك- مطارنة- أساقفة) بحياة النسك والتقشف، ومن ثم تنتقل تلك الروح التقوية إلى الرهبان والكهنة وإلى الشعب أيضًا، متذكرين قول القديس أوغسطينوس: «جلست على قمة العالم حينما أصبحت لا أخاف شيئًا ولا أشتهى شيئًا».