رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات.. من دوسلدورف والقاهرة




عند زيارتى الأولى لألمانيا، قبل عدة سنوات، وكانت هى بداية زياراتى المتعددة، للدول الأوروبية فيما بعد، نزلت إلى الشارع مع صديق لى، كان رفيقى فى الرحلة، ووقفنا على الرصيف العريض للشارع الواسع، نشير إلى أحد التاكسيات المارة أمامنا، وهى لا تحمل أحدًا من الركاب، دون أن يتوقف لنا سائق أى تاكسى.. مللنا الوقفة الطويلة التى أنفقناها فى الإشارة إلى كل سيارة أجرة فارغة، علها تقف لنا، دون جدوى.. قلت فى نفسى، لعلها عقدة الخواجة الألمانى، شديد التعصب لجنسه، حيال راكبين عربيين!.
لما طالت الوقفة، بدأت أتساءل بصوت مسموع عن السبب فيما نحن فيه، وأستنكر هذا التصرف غير الحضارى من السائقين الألمان، وهو ما سمعه رجل سودانى، تصادف مروره إلى جوارنا.. قال: «مالك يا زول.. ليه غضبان؟»، أخبرناه بمشكلتنا، فابتسم قائلًا: «ولو وقفت حتى الصبح، لن يقف لك واحد من هادوللى»، وأشار إلى لافتة قريبة منا، مكتوب عليها «TAXI».
وأشار علينا أن نذهب للوقوف عندها، وستقف لنا سيارة أجرة، حتى دون أن نشير إليها.. وعندما بلغنا اللافتة، وجدنا أنها تتصدر مساحة فارغة فى حيز الرصيف، تسمح بتوقف السيارة لإركاب الزبائن دون إعاقة حركة المرور.. وما إن وقفنا، إذا بأول سيارة مارة، تتوقف لنا لتنقلنا إلى حيث طلبنا من قائدها، دون أن يسألنا عن وجهتنا قبل الركوب، وما إذا كانت هذه الوجهة تصادف طريقه أم لا، كما يفعل سائقو التاكسيات عندنا، الذين قد يوافقون على ركوبك معهم، أو يتركونك، لأن الوجهة على غير هواهم.. ساعتها أدركت أن الذى تخلى عن أخلاق حضارته هو نحن، فى مصر بالذات.. فالسائق الألمانى هيمنت حضارته على سلوكه فى الشارع، ولم يُبق رقيبًا عليه، إلا ما تربى عليه من أخلاق حكمت سلوكياته، حتى ولو لم يكن هناك أى شرطى فى الشارع، وتلك ملاحظة أخرى، إذ إن احترام القانون هناك، وخشية عقابه الشديد، حالت دون كثير من المخالفات، ووفرت على جهاز الشرطة مراقبة الشارع ليل نهار، لأن هناك مواطنا مسئولا، عرف ما له وأدرك ما عليه، فأدى ما عليه وأخذ ما له، بمعطيات القانون الذى منع عليه أن يركب أحد إلى جواره، وأن يكون هناك فاصل زجاجى بين الجزء الأمامى من السيارة، والجزء الخلفى الذى يركبه الزبون، وقد منع عليه القانون التحدث مع الراكب، إلا فى مقتضيات الطريق، والوجهة التى يقصدها، ولا يتم دفع أجرة التوصيلة إلا بعد النزول من السيارة، والوقوف إلى جانب «العداد»، لمعرفة المطلوب بالضبط، حتى ولو كان جزءًا من «المارك» وقتها، ولا مانع بعد ذلك أن يقبل منك «إكرامية» على هواك وبمبادرة منك.. فماذا لدينا من مآسٍ مع التاكسى، فى الشارع المصرى.
فى السابق، اعتاد بعض السائقين عندنا، عدم تشغيل «العداد»، بحجة أنه لا يعمل!، لتكون أمام أحد خيارين، أن تقبل بـ«مقاولة» من السائق على التوصيلة، أو تركب وتدفع ما يطلبه منك عند الوصول، وإنت وحظك، وذوق السائق من عدمه، والآن، وبعد أن كثر الطلب على سيارات الركوب عبر الهاتف، يكاد كل السائقين أن يشتركوا فى تعطيل «العداد»، لأنهم يرون أنه لا يحقق دخلًا عادلًا لهم.. هذا إذا وافق على أن يُقلك إلى وجهتك التى تريدها، مع أن أبسط قواعد المرور، فيما يتعلق بتسيير هذه المركبات، أن تكون عند رغبة الزبون، وحسب وجهته، دون رفض أو شروط!.. وما إن تركب، يتحول الطريق إلى بكائية إنسانية، حول هذا الرجل القابع خلف مقود السيارة، وظُلم الزمان له، وعدد من يعول، والأيام لا ترحمه ولا صغاره ولا أمه المريضة، وزوجته التى أجرت جراحة خطيرة تستنزف كل دخله، وأنه يضطر إلى العمل ساعات طويلة، حتى يحقق دخلا يكفيه، ويدفع منه لمالك السيارة، وأنت مضطر لسماع هذه الحواديت المتكررة، «ولازم تخلى عندك دم، وتدفع زيادة، صدقة لهذا المسكين»!.. كل هذا لو أن حظك كويس، وكنت تفهم فى بداية «البنديرة»، لأن كثيرًا من هؤلاء السائقين، يُخادع بعض راكبيه، ويضغط على التعريفة السياحية لبداية التوصيلة، وشتان بينها وبين التعريفة العادية.. يعنى من الآخر، لا بد أن يكون صبرك طويلا، وعينك فى وسط رأسك، وأنت تركب واحدًا من التاكسيات البيضاء، فى شوارع المحروسة.
بعض ما جذب انتباهى فى مدينة دوسلدورف، كشأن كل المدن الألمانية، أن المحلات تُغلق أبوابها عند السادسة مساءً، مع ترك بعض من إضاءاتها، تُنير واجهاتها الزجاجية، فترى المدينة متلألئة، مع أنها قد خلدت إلى سكونها، انتظارًا ليوم عمل جديد، بعد ذهاب المواطن الألمانى إلى بيته، والاستمتاع بجو أسرى، حول مدفأة ووسط أطباق العشاء التى يلتقى على مائدتها أفراد أسرته، وضيوفها فى العطلات.. بلد يوفر طاقة البشر والكهرباء، مع أنه بلغ شأوًا فى الصناعة والغِنى، ويُعد هو قائد المسيرة فى الاتحاد الأوروبى، وعليه يعتمد البعض فى محيطه فى حل مشاكلهم.. ومع أن ديننا يحضنا على أن «لا تُسرف، ولو كنت على نهر جارٍ»، فإننا أول من يُقاوم الأفكار المطروحة لترشيد استهلاك الكهرباء، وتقليل الضغط على شوارع البلد، وكذا على أجهزة الدولة، وتوفير طاقة ووقت المواطن، لاستغلاله فيما يفيده ويعود بالنفع على بلده، وكأننا أعداء أنفسنا.
سألت مضيفى فى ألمانيا: ماذا لو أراد أحدهم أن يسهر ويقضى وقتًا ممتعًا، لأنه لا ينتظر عملًا فى الصباح؟.. وكأنه أراد أن يجعل إجابته بشكل عملى.. دعانى إلى سهرة فى «المدينة القديمة» فى دوسلدورف، وهى مكان فيه كنائس قديمة، أرضيته مغطاة بالبلاط الحجرى، كالذى كان فى شوارع مصرنا القديمة، تصطف على جانبيه محلات للطعام والشراب، وأخرى للتسلية، لمن أراد.. وهنا فقط، مسموح بالسهر، دون أن يتقوّل البعض بأرزاق الناس المقطوعة، وأن الدولة تُضيق على المواطن!.. الحرية مكفولة هناك، بشروط، أهمها، ألا يطغى الخاص على العام، وألا تعُطل الرغبات الفردية، منظومة أمة تريد أن تستمر نهضتها، وتزداد نهوضًا.
أقول هذا بمناسبة ما يدور الآن حول تنظيم عمل المقاهى، وتحديد موعد لإنهاء عملها.. أقول مقاهى، وليست محلات للطعام والشراب ولا صيدليات ولا محلات السوبر ماركت الكبيرة، وغيرها من ضرورات الحياة، التى يفرض القانون الأوروبى أن تُنهى عملها عند الحادية عشرة مساءً، على أن يُستثنى واحدٌ من كل ما أشرنا إليه من هذه الكيانات، من هذا الموعد، ويستمر فى عمله، مناوبًا، لخدمة أهل المنطقة المتواجد فيها، على مبدأ لا ضرر ولا ضِرار.
وهنا أُشير إلى المشروع الجيد، المُسمى «شارع مصر»، الذى جاء بابًا للرزق للعديد من شبابنا.. مكان رائع للسهر، لمن أراد، بعيدًا عن أحياء المدينة، وإرهاق ساكنيها، بشرط أن تتطور فكرة الشارع، بما يُزيد الجذب إليه، وليتنا نجعله مكانًا للثقافة والفكر والترفيه الفنى.. ساعتها سنكون قد ضربنا عصفورين بحجر واحد.. مكانٌ رحب للسهر وسط الأطعمة الشهية، وزاد فكرى وثقافى، تسهم فيه مؤسسات الدولة، وغذاء فنى من بيوت الثقافة وساقية الصاوى، ومن حذا حذوها، بدلًا من الشكوى المريرة، من شباب هذا الشارع، الذين باتوا يئنون من قلة الإقبال عليه، لأنهم لم يصبحوا فى دائرة الضوء.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.