رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. أحمد عوض يكتب: معبد أبوسمبل.. إعجاز سياسي

جريدة الدستور

حين الحديث عن معبد «أبوسمبل» بالتزامن مع الاحتفاء بظاهرة تعامد الشمس على قدس أقداسه، نجد أنفسنا أمام براعة تصل لحد الإعجاز فى فنون «البروباجندا» السياسية عنها فى فنون العمارة وعلوم الفلك، إذ جاء تشييد معبد «أبوسمبل» كبانوراما عسكرية تُوثق أهم انتصارات الملك «رمسيس الثانى» آنذاك، هذا إلى جانب توافقها مع الرمزية الدينية لحدث تعامد أشعة شروق الشمس على قدس أقداس المعبد فى يومين محددين من كل عام.
على نقيض تلك الرمزية المعمارية جاء بعض التفسيرات الأثرية المعاصرة بتأويل ظاهرة تعامد الشمس على المعبد فى يوم ٢١ من «أكتوبر» و«فبراير»، بأن رجحت توافقهما مع بداية الفصول فى التقويم المصرى القديم تارة، وتوافقهما مع يومى زراعة وحصاد القمح فى مصر القديمة تارة أخرى. ومنها وجب تفنيد تلك التفسيرات لتبيان حقيقة ظاهرة التعامد وعلاقتها بآلة الدعاية السياسية آنذاك، إذ نجد أن ما ورد عن توافق بداية فصل «الشتاء» فى التقويم المصرى القديم مع يوم ٢١ «أكتوبر» وتوافق بداية فصل «الصيف» فى التقويم المصرى القديم مع يوم ٢١ «فبراير»، هو أمر يجافى كافة الحقائق العلمية والأثرية، فالتقويم المصرى القديم يبدأ بفصل «الفيضان» توافقًا مع حدث الشروق السنوى للنجم «الشعرى اليمانية» الموافق يوم ١٩ «يوليو» آنذاك، ويبدأ بعدها فصل «الشتاء» موافقًا يوم ١٦ «نوفمبر» ثم يبدأ فصل «الصيف» موافقًا يوم ١٦ «مارس». أما تفسير توافق ظاهرة التعامد مع مواسم زراعة وحصاد القمح، فتذكر النصوص المصرية القديمة أن عيد الحصاد كان يحتفل به فى أول شهور فصل الصيف الذى يبدأ موافقًا يوم ١٦ «مارس»، ويحتفل بعيد «نمو المحاصيل» فى أول شهور فصل الشتاء موافقًا يوم ١٦ «نوفمبر»، وهو ما يتناقض تمامًا مع تفسير ظاهرة تعامد الشمس على المعبد بيومين ذوى صلة بمواسم زراعة القمح فى مصر القديمة، وبالإضافة إلى ما سبق يتناقض ذلك التفسير مع الغرض الدينى الذى أقام الملك «رمسيس الثانى» من أجله معبده فى «أبوسمبل»، حيث شيد المعبد تكريسًا للمعبودين «آمون» و«رع» وهما كمعبودين ليس لهما علاقة مباشرة بالقمح ودورة زراعته وحصاده.
وللوقوف على تفسير صحيح لظاهرة تعامد أشعة شروق الشمس على معبد «أبوسمبل»، وجب تبيان موعد حدوثها وقت بناء المعبد لا فى وقتنا المعاصر، وذلك تفاديًا للتغييرات الطفيفة فى حركة الأجرام السماوية، ويتم ذلك باستخدام برنامج الحاسب الآلى المتخصص فى دراسة حركة الأجرام السماوية، ومن ثم يتم تحديد موعد حدوث ظاهرة تعامد أشعة شروق الشمس وقت بناء المعبد بشكل علمى دقيق، حيث تأكد حدوث الظاهرة آنذاك فى يوم ٢١ من الشهر الثامن ويوم ١٤ من الشهر الرابع بالتقويم المصرى القديم. ومن المدهش هنا أن نجد من الأدلة الأثرية فى العصور اللاحقة لبناء المعبد ما يؤكد توافق موعد حدوث الظاهرة مع موعد عيد احتفالية النصر، والمقصود انتصار المعبود «حورس» على أعدائه، وكذلك يوم عيد ظهور المعبود «حورس»، وهو ما يُرجح أن موعد حدوث ظاهرة تعامد أشعة شروق الشمس على معبد الملك «رمسيس الثانى» فى «أبوسمبل» يقترن بموعد الاحتفال بأعياد المعبود «حورس»، وذلك نظرًا للعلاقة الدينية الوثيقة بين المعبود «حورس» والملك بصفته وريثه الملكى، ومن ذلك المنطلق تم تنصيب تمثال الملك وهو يرتدى تاج الحرب «خبرش» داخل قدس أقداس المعبد بجوار المعبودات الخالقة للكون فى المذاهب الدينية السائدة آنذاك، ومنها يتوافق على هذا النحو مع ما يمثله حدث الشروق اليومى للشمس من انتصار قوى النظام «ماعت» على براثن الفوضى «إسفت» طبقًا للمعتقدات المصرية القديمة، وهو ما يؤكد بدوره المعنى السابق من وجهة نظر المفاهيم الدينية والسياسية للمصرى القديم.
أما عن عمارة المعبد فقد جاء نحت واجهة المعبد بتنصيب أربعة تماثيل للملك بالتاج المزدوج، وذلك للدلالة على أن شخص الملك يُعّد الركيزة الرئيسية لاستقرار الكون، حيث يتم تدشين تلك التماثيل كتجسيد رمزى لأعمدة الكون الأربعة التى ترتكز عليها السماء، وعليها جاء ذلك المعنى متوافقًا مع نتائج انتصارات الملك وتوحيده لأواصل الإمبراطورية المصرية القديمة، وهذا المعنى يتأكد أيضًا من خلال نقش قواعد تلك التماثيل الملكية بعلامة توحيد قطرى مصر القديمة «السماتاوى» مقترنة بصور الأسرى من الأقطار الشمالية والجنوبية، وعلى هذا يتم تمجيد الملك بصفته الكونية من خلال تصوير الملك بنفسه وهو يتعبد إلى اسم ميلاده المصور فوق المدخل الرئيسى للمعبد بطريقة الكتابة المعماة، حيث يظهر تمثال المعبود «رع» فى كوة أعلى ذلك المدخل الرئيسى وعلى جانبيه نقش للمعبودة «ماعت» وعلامة «وسر»، لتكنى تلك العلامات الثلاث بدورها عن اسم ميلاد الملك وهو «وسر ماعت رع» ويعنى «قوية عدالة رع»، وهو ما جاء متوافقًا مع صفة الملك كوريث للمعبود «رع» ومقرر عدالته «ماعت» على الأرض، وأخيرًا جاءت تماثيل القردة البابون أعلى واجهة المعبد بعدد ٢٢ قردًا لتكنى زمنيًا عن العام ٢٢ من حكم الملك والذى يُعد أول عام يتوحد فيه شطرا الإمبراطورية الشمالى والجنوبى بعد انتهاء حالة الصراع بين مصر القديمة ومملكة «خيتا» الآسيوية فى العام ٢١ من حكمه. وتأكيدًا للمعنى السابق، تم تشييد البهو الرئيسى للمعبد كصحيفة معمارية توثق انتصارات الملك باعتبارها حدثًا خالدًا، حيث يتم تسجيل التتابع الزمنى لتلك الانتصارات بداية من يسار المدخل على الجدار الجنوبى للبهو بتصوير انتصار الملك فى معاركه الأولى، ثم يتبع ذلك تصوير انتصاره فى معركة «قادش» على الجدار الشمالى للبهو الرئيسى يمين المدخل الرئيسى للمعبد، وهى المعركة التى انتصر فيها الملك «رمسيس الثانى» على مملكة «خيتا» الآسيوية وأعقبها إقرار السلام بينهما، وعلى ذلك جاء تشكيل أعمدة البهو الرئيسى على هيئة أربعة تماثيل للملك متوجة بالتاج الأبيض للصفة الجنوبية وأربعة تماثيل مقابلة لها متوجة بالتاج المزدوج للصفة الشمالية، وذلك تأكيدًا للتتابع الزمنى السابق ذكره، حيث تكنى أعمدة تماثيل الملك بالتاج الأبيض عن بداية محاولات الملك للتوحيد بين شطرى الإمبراطورية الشمالى والجنوبى، أما أعمدة تماثيل الملك بالتاج المزدوج فتكنى عن توحيد الملك بين شطرى الإمبراطورية المصرية.
أما قدس أقداس المعبد فقد شُيّد كفراغ مقدس منوط بتحقيق المكانة اللاهوتية للملك، وهو ما يؤكد معه معنى الانتصار ووضعه فى إطار آليات الدعاية السياسية. نعم لقد كنا سباقين فى كل أوجه الحضارة.