رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثورة على طريقة بيتهوفن!


عرفنا من جيفارا، إذن، أن «الثورة قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا القاتل للوطن»، واستنتجنا من ذلك أن ثورة «البوب» الصالح أو الحاج محمد، إن قامت، فلن يكون لها أى عمق، لأن الوطن لا نصيب له من حبه «القاتل». ومن «لودفيج فان بيتهوفن» عرفنا أن «لا ثورة فى النمسا.. ما دامت البيرة موجودة». وعليه، رأينا أن على «البوب» أن يغادر النمسا.. أو يقلع عن تناول «البيرة» أو يتوقف عن تعاطى «البرشام».. أو يستأجر «حد بيفهم» يكتب له!.
كان «بيتهوفن» قد غادر بون، مسقط رأسه، وهو فى الثانية والعشرين من عمره، وذهب إلى فيينا ليبدأ غزوه للعالم بموسيقاه، ومع أن ظروفه الصحية، الاجتماعية، والمادية كانت صعبة إلا أنه كان ثائرًا من طراز رفيع، وليس من هؤلاء الذين يتثورجون ليتكسّبوا أو يرتزقوا، أو بحثًا عن دور، بعد خروجهم على المعاش. ومع أنه نشأ فى أسرة تخدم الإقطاع وتعيش على فتات الأمراء، إلا أنه استطاع أن ينتزع كرامته ويفرض احترامه على مجتمع النبلاء الذى عاش فيه ورفض أن يرتدى السترة المزركشة التى كان يرتديها أبوه وجده، وكان آخر من يرتدى هذا الزى، زى الخدم، من الموسيقيين الذين يعزفون فى بلاط الأمراء.
هيكتور برليوز كان يترك كراسته الموسيقية وينزل إلى الشارع ليقف إلى جانب شعب باريس خلف المتاريس فى ثورته على الملك البرجونى، وريتشارد فاجنر شارك فى ثورة أهل ساكسونيا على ملكها سنة ١٨٤٨ ففقد وظيفته بأوبرا درسدن، وظل هاربًا تطارده الشرطة السكسونية ومعها أمر بإلقاء القبض عليه. ولم يكن «بيتهوفن» مثل هؤلاء، بل كان يشارك فى الثورة، أى ثورة، بأعماله وأفعاله. ويمكنك أن تقول إن حياته كلها كانت صورة من ثورة الفرد على الذل والعبودية ضد الوسط الأرستقراطى الذى قام بتدليله إعجابًا بفنه. وعمليًا، أثبت «بيتهوفن» أن «الثورة ليست بندقية ثائر فحسب، بل هى معول فلاح ومشرط طبيب وقلم كاتب وريشة شاعر»، والعبارة لياسر عرفات، الذى لا أعرف لماذا فاتته الإشارة إلى الموسيقيين والفنانين بمختلف فئاتهم؟!.
من الوقائع الشهيرة أن الموسيقى العظيم كان يعتزم إطلاق اسم نابليون الأول، ابن الثورة الفرنسية، على سيمفونيّته الثالثة. لكن فى أحد أيّام سنة ١٨٠٤ جاءه تلميذُه فرديناند ريس وأخبره بأن نابليون أعلن نفسه إمبراطورًا لفرنسا، فاستشاط بيتهوفن غضبًا وقال «هو، إذن، كباقى البشر، جاء ليدوس على حقوق الإنسان، ويتمادى فى تحقيق أطماعه الشخصيّة»، واتّجه إلى مكتبه وقام بتمزيق صفحة عنوان السيمفونية المكتوب عليها اسم بونابرت، ورماها على الأرض. واختار لها، لسيمفونيته الثالثة، عنوان «سيمفونية البطولة- فى ذكرى رجلٍ عظيم». وكما يكرر التاريخ نفسه، ويعيد إنتاج الحوادث، يعيد أيضًا إنتاج الشخصيات، لكنه أحيانًا، كما قال ماركس، يقلب المآسى إلى مهازل، والعظماء إلى حقراء، سبق أن كشفت تسريباتهم جوانب من المستور، وفضحت بعض ما كان يدور فى الخفاء، من وقائع يشيب لها «الأقرع»!.
لك أن تتخيل، مثلًا، عبثية أن تقارن بين اختلاف نظرة «بيتهوفن» إلى «نابليون»، واختلاف نظرة العائدين «من شم الكلة» إلى ذلك الذى ما عاد يشغل نفسه بغير توليد النملة، أى نملة، أملًا فى أن يكون وليدها خادمًا للإرهابيين. وكنا قد تناولنا، أمس، مقولة جون كينيدى «من يجعلون الثورة السلمية مستحيلة يجعلون الثورة العنيفة حتمية»، التى انتزعها الحاج محمد أو «البوب الصالح» من سياقها، ربما لأنه «حافظ مش فاهم»، أو لأنه اعتاد أن يمزج «الهبل» مع «الشيطنة»، والبيرة النمساوية مع «السبرتو» التركى والقطران القطرى، وأوضحنا كيف أنه استحق «بصقة» كبيرة من الرئيس الأمريكى الأسبق، لأنه كان المدير العام للوكالة الدولية للطاقة النووية، صاحبة التاريخ غير المشرف مع الملف النووى الإسرائيلى، الذى كان «كينيدى» يعارضه وحاول إرسال فرق تفتيش للتأكد من سلمية ذلك البرنامج، الأمر الذى رجّح، مع ما كشفته الوثائق، أن يكون للإسرائيليين دور فى اغتياله.
.. وأخيرًا، لك مطلق الحق فى أن تفصل عبارة أو مقولة «كينيدى» عن قائلها، وعن سياقها، وعن ذلك الذى استشهد بها، غير أنك تخاصم عقلك لو غابت عنك الأسئلة البديهية عن النتائج وإمكانية إحداث تغيير، وعن البدائل، من أشخاص وسياسات، وعن كروت الضغط، التى تجعلك طرفًا فى معادلات، لا أعتقد أنك ستكون طرفًا فيها دون معرفة الفرق، الكبير جدًا، بين المعارضة، الاحتجاج أو الرفض بهدف التقويم أو الوصول إلى وضع أفضل، نريده جميعًا، وبين «الهلفطة» و«الهرتلة». وكذا الفرق بين «الغضب» الناتج عن اختلاف مواقف أو زوايا الرؤى، وذلك الناتج عن كراهية أو غرض أو مرض!.