رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

درس الأستاذ هيكل


فى ٢٣ سبتمبر من عام ١٩٢٣م، ولد الكاتب الصحفى الكبير، الأستاذ محمد حسنين هيكل، وفى ذكرى مولده، نأخذ من هذه التجربة الثرية، لواحد من أهم صحفيى العالم، ما يدعو للتأمل والتعلم.
حين قرر الرئيس جمال عبدالناصر تكليف الأستاذ هيكل بمناصب رسمية متعددة، منها وزارة الإعلام، ومهام رئاسية كثيرة خارج حدود طبيعة مهنته كصحفى، فإن الأستاذ أصر فى كل مرة على أن يعتبر مهمته الأولى هى الصحافة، حتى إنه أدار وزارة الإعلام من مكتبه فى الأهرام!، اعتز دائما بكونه «جورنالجى» حسب تعبيره، فهو الرجل القريب جدًا من الرئيس عبدالناصر، حتى وفاته، وحين اشتدت حملة التشويه غير الموضوعية ضد تجربته العظيمة، كتب كتابه الشهير «لمصر لا لعبدالناصر»، مفندًا بمهارة ساحرة كل الأكاذيب التى تم الترويج لها، وحين سألته فى أحد لقاءاتى المعدودة معه: بعد كل هذه التجربة الواسعة الثرية، أى كتاب ألفته تجده الأقرب إليك؟ قال دون تردد: «لمصر لا لعبدالناصر»!. ثم جاء خلاف الأستاذ مع الرئيس السادات، وانتهى الأمر بإقالته، حيث أصدر الرئيس السادات قراره الشهير بإقالة الأستاذ من رئاسة تحرير الأهرام، وتجهيز مكتب له بقصر عابدين ليعمل مستشارًا لرئيس الجمهورية، وقد أدرك الأستاذ بحسه الصحفى الخبير، أن المنصب الجديد المعروض عليه ليس أكثر من وضع كلماته الحية ورؤاه فى ثلاجة موتى رئاسية!، خرج من مؤسسة الأهرام فى صباح السبت ٢ فبراير ١٩٧٤م، متحدثا لوكالات الأنباء بجملة واحدة: «إن الرئيس يملك أن يقرر إخراجى من الأهرام. وأما أين أذهب بعد ذلك فقرارى وحدى، وقرارى هو أن أتفرغ لكتابة كتبى، وفقط». ثم تحدث الأستاذ لـ«صنداى تايمز» فى السبت ٩ فبراير ١٩٧٤م، قائلا: «إننى استعملت حقى فى التعبير عن رأيى، ثم إن الرئيس السادات استعمل سلطته، وسلطة الرئيس قد تخول له أن يقول لى اترك الأهرام، ولكن هذه السلطة لا تخول له أن يحدد أين أذهب بعد ذلك، القرار الأول يملكه وحده.. والقرار الثانى أملكه وحدى!». ظن البعض أن بابتعاد سلطة الدولة عن الأستاذ، وحرمانه من إدارة الأهرام، أو من مناصبه الرسمية إلى جانبها، فإن ذلك ينهى تجربته، لكنه انطلق يكتب أهم كتبه وأحاديثه فى هذه الفترة، فقد سعى وراء المعلومات فى كل العالم، ودقق وفحص آلاف الوثائق من كل الدنيا، وأصبح لقاء الأستاذ شرفًا يسعى إليه أهم زعماء العالم وسياسييه وصحفييه. أثبت لنا درس حياة الأستاذ أن أهم سلطة لأى صحفى، هى كلماته الحرة، وسعيه الدائم فقط وراء الحقيقة دون غيرها، سواء كان ذلك بالقرب من سلطة الدولة، كما جرى فى عهد الزعيم جمال عبدالناصر، أو كان بعيدًا عنها يكتب ويبحث، كما جرى بعد ذلك!.