رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أين ذهبت الأحزاب؟


فى أوائل القرن الثامن عشر، شهدت مصر أول فعالية سياسية بتشكيل مجلس نيابى حمل عبر رحلة طويلة، العديد من الأسماء ضمن مجلس شورى القوانين إلى مجلس الشورى إلى النواب والشيوخ، ثم مجلس الأمة فمجلس الشعب فالعودة أخيرًا إلى مجلس النواب، وقبل ثورة يوليو كان النظام البرلمانى فى مصر مكونًا من غرفتين ثم غرفة واحدة، ثم مجلسين ثم الاكتفاء بمجلس واحد حاليًا هو النواب، تطبيقًا للدستور الجديد.
الحياة البرلمانية التى شهدت مراحل كانت فى قمة التوهج، وانتهت أيضًا إلى مراحل فى قمة الهدوء وبين نواب كان المجلس يهتز لكلماتهم، وكانت الحكومة تحاول قدر المستطاع أن تتجنب صولاتهم تحت القبة إلى نواب أشهر ما وُصفوا به نواب «أبوالهول» ومُنحوا تلك الصفة لصمت بعضهم طيلة خمس سنوات تحت القبة قضوها حاملين ذكريات وطلبات واستثناءات، وانتهى بهم الحال حاملين لقب «النائب السابق».
رحلة البرلمان الطويلة فى مصر التى طالت لما بعد المائة وخمسين عامًا، تقابلها أيضًا رحلة طويلة للعمل الحزبى فى مصر بدءًا من الحزب الوطنى «مصطفى كامل» وحتى الحزب الوطنى «أحمد عز»، وبينهما كانت هناك حياة حزبية وصل عدد الأحزاب فيها قبل يوليو ١٩٥٢ إلى نحو ٢٤ حزبًا، ثم ماتت كل ملامح الحياة الحزبية لمدة استمرت أكثر من خمسين عامًا مع قيام ثورة يوليو، وتصدر المشهد حزب واحد حمل العديد من الأسماء من الاتحاد القومى ثم الاشتراكى العربى، لينتهى الحال أيضًا بـ٢٤ حزبًا يتصدرها الحزب الوطنى.. قبل يوليو ٥٢ كان لدينا ٢٤ حزبًا وقبل يناير كان عندنا نفس العدد، وكانت هناك ملامح مشتركة تجمع بين المرحلتين فى الأولى يسيطر حزب الوفد، وفى الثانية يسيطر الحزب الوطنى بغض النظر عن شعبية كل منهما.. وجاءت ثورة يناير ٢٠١١ لتصدر لنا فوضى فى الحياة السياسية بجناحيها الحزبى والبرلمانى.
ولكن الأهم هو ما يحدث فى الحياة الحزبية فى مصر. بعد ٧ سنوات من يناير لم تستطع الجماهير التى خرجت فى يناير ٢٠١١ أو فى ثورة يونيو ٢٠١٣ أن تشكل تيارًا حزبيًا قويًا، وظلت السيولة تسيطر على المشهد الحزبى فى مصر، ورغم ما يحدث حاليًا من بناء للدولة المصرية الحديثة عبر إنشاء المدن والطرق والمشروعات القومية ودحر للإرهاب، فإننا لم نستطع تشكيل حزب سياسى قوى يقف مع الحكومة أو ضدها. يكون له صوت مسموع فى الشارع السياسى. السؤال هنا: من المسئول؟ الدولة أم الشعب؟!.. إذا كان لدينا فى ٣٠ يونيو فى الشوارع والميادين ٣٠ مليون مواطن، وإذا كانت الجمعية العمومية للأهلى أو الزمالك تتعدى الآلاف وأضعاف ذلك كانت روابط الأولتراس.. فإذن هناك عيب ما.. ربما غياب القيادة الطبيعية فى الشارع التى تشكل فى النهاية حزبًا.. أو رغبة البعض فى بناء حزب بطريقة فوقية تصدر فيها التشكيلات من الأعلى إلى الأسفل، وربما يكون السبب هو غياب المدرسة السياسية التى تؤهل الشباب الذين يشكلون الجزء الأهم فى أى حزب سياسى.
ولنتابع قبل يوليو، كانت كليات الحقوق الثلاث فى مصر وقتها القاهرة وعين شمس والإسكندرية هى مدرسة تخريج القيادات الشبابية السياسية، وكانت الجامعة والمدارس القانونية المصدر الذى يقدم القيادات السياسية، وكان الشارع السياسى ورموزه معلمين جيدين لأجيال متعددة، وبعد يوليو ١٩٥٢ ومع ظهور نغمة الصوت الواحد وقوى الشعب الواحدة، وهتافات الاتحاد الاشتراكى بدأ المنبع ينضب، وإن كان النظام وقتها قد تنبه لذلك، فأنشأ منظمة الشباب التى قدمت لنا أجيالًا تبدأ من د. حسين كامل بهاء الدين ود. على الدين هلال ود. محمود شريف، وخرج منها أيضًا كمال الشاذلى وعشرات القيادات السياسية، والبرلمانية، وظل هذا الجيل حتى وقتنا هذا هو النموذج الأمثل للقيادة الواعية التى تعرف كيف ترسم ملامح الشارع السياسى، وجاء عهد مبارك ليعيد لنا الصوت الواحد من خلال الحزب الوطنى، وتتضاءل بجواره أصوات كثيرة ربما لو أتيحت لها الفرصة بشكل جيد لما انفجر الشارع مؤيدًا ومخدوعًا فى أحداث يناير.
واليوم والرئيس السيسى يبنى الدولة الحديثة بأركان قوية، ويدخل فى تحدٍ قوى مع المرض والجهل والضعف. اليوم وهو ينتقل بنا من مرحلة السكن الخطر والمناطق التى يحيا فيها المواطن بلا كرامة، وينطلق بقطار التغيير من المناطق الخطرة والكثيفة بالسكان إلى المدن الذكية، ومع إعادة بناء جيش قوى وشرطة متقدمة، فى المقابل ما زال قطار الحياة الحزبية فى محطته الأولى، ولم نسمع عن حزب قوى يستطيع أن يحشد ظهيرًا شعبيًا سواء كان مؤيدًا للحكومة أو معارضًا لها، وأن تكون هناك قدرة على الحشد مثلما تحرك الشعب فى ٣٠ يونيو.
هل غياب السياسة عن الجامعة السبب؟.. هل دوامة الحياة الاقتصادية السبب؟ هل هناك أسباب أخرى لإخلاء الساحة أمام تيارات أخرى دينية متطرفة أو إسلام سياسى أو محاولات لإعادة الإخوان إلى الصورة أو ترك الساحة لتجار المخدرات ليسيطروا على الشباب؟!.
المطلوب اليوم مع نهضة البنيان أن نبدأ أيضًا نهضة سياسية، أن ينشأ إلى جوار أكاديمية التدريب معهد للتدريب السياسى، وأن تقوم أكاديميات علمية بتأهيل الشباب سياسيًا. البرنامج الرئاسى نجح فى تقديم شباب يستطيع أن يقود جهازًا تنفيذيًا. نرى بشارة ذلك فى اختيارات نواب للمحافظين من خريجى البرنامج.. ولكننا نحتاج أيضًا إلى معهد سياسى أو برنامج سياسى يؤهل الشباب سياسيًا، فيستطيعون قيادة وتنظيم الشارع السياسى. المطلوب هو عودة سريعة للمحليات التى تعد المدرسة الأهم فى إعداد البرلمانى، ولو تابعنا عبر دورات متعددة للمجالس النيابية، سنرى أن نجومها الأبرز قد تربوا فى مجالس محلية للمدن أو القرى أو المحافظات، وأن أغلبهم سبق له النجاح فى انتخابات محلية، وعاش داخل المجالس المحلية لسنوات أصبح بعدها جاهزًا لخوض الحياة البرلمانية وأن يحقق فيها نجاحًا ملحوظًا.
المطلوب أن نبدأ تربية سياسية من المراحل الدراسية الأولى. تدريب الطالب على انتخابات اتحادات الطلبة من الابتدائية حتى الثانوية. إعادة الهيبة لاتحادات طلاب الجامعات التى تخرج فيها، فى السبعينيات والستينيات، سياسيون شاركوا فى الحياة السياسية بزخم. أن تتدخل الدولة لدعم الأحزاب السياسية حتى تستطيع أن تقف على أقدامها، فلا يوجد حزب يستطيع اليوم إصدار صحيفة يومية تعبر عنه. فالتجمع يكاد يغلق جريدته والوفد لديه أيضًا مشاكل فى تمويل صحيفته والأحزاب الجديدة الأخرى لا تجد صحيفة تعبر عنها.. وبالتالى تفقد الأحزاب أهم وسائل التأثير فى الشارع.
اليوم وبعد عقود طويلة من الزمن والعمل السياسى، يجب أن تعود الحياة الحزبية فى مصر إلى قوتها مرة أخرى، وأن ينهض الشارع السياسى ليكون داعمًا للنهضة التى يشهدها الشارع الاقتصادى. نحتاج إلى جيل جديد مثقف سياسيًا يعرف كيف يدافع عن حقوقه وكيف يؤدى واجباته، وكيف يستطيع أن يكون معبرًا عن ناخبيه حاملًا هموم قضاياهم محققًا آمالهم.
مهم جدًا أن يعود النشاط إلى الحياة الحزبية قبل نهاية الدورة البرلمانية الحالية لنرى مجلسًا نيابيًا جديدًا يعيد إلى الأذهان مجالس نيابية ما زالت كلمات رؤسائها وأعضائها تمثل جملًا مأثورة فى الدفاع عن حق الشعب.