رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البحار.. زوجة سيد العامية: عملت لقلبى حجاب

جريدة الدستور

«لو مت ع السرير إبقوا احرقوا الجسد.. وانتوروا رمادى ع البيوت وشوية لبيوت البلد.. وشوية ترموهم على تانيس وشوية حطوهم فى إيد ولد.. ولد أكون بُسُته ولا أعرفوش».. مرثية حزينة، تبدو كوصية كتبها سيد حجاب أحد عمالقة شعر العامية المصرى، قبل أن يموت.
«حجاب» تزوج من الدكتورة ميرفت الجسرى قبل وفاته بـ٢١ سنة، وظلت معه طوال تلك الفترة وفى حضرته، تظللهما علاقة حب أخذت تكبر، مثل بذرة أصبحت شجرة كبيرة.
وفى بيتهما بـ«دجلة المعادى»، الملىء بالتحف والمقتنيات وبعبق سيد حجاب، راحت «الدستور» تجوب المكان وتلتقط الصور والحكايات من الدكتورة ميرفت عن سنواتهما وذكرياتهما معًا، رغم حزنها البادى على وجهها، ونمط حياتها الذى يؤكد أن «حجاب» غادر بالجسد، لكنه أبدًا لم يمت.

مجلة فى ألمانيا قادتنى إليه بالزمالك.. وطلب منى الارتباط: «لما تحسى إنك عايزة تتجوزينى تعالى»
لأنها لا تعترف بقانون الصدفة، ترى ميرفت الجسرى أن المصادفة التى قادتها إلى «حجاب» تحمل إشارة القدر، حين كانت فى ألمانيا، حيث درست فى معهد الموسيقى لحبها الغناء.
هناك شعرت «السيدة ميرفت» أن ألمانيا ليست طريقها، وأرادت العودة إلى مصر للغناء، وفكرت أن يكتب لها سيد حجاب، وبينما تزور صديقة فى «بون»- كانت هى تسكن فى مدينة بالجنوب لا توجد بها مجلات عربية- وجدت عندها عددا من مجلة «صباح الخير»، يضم حوارًا مع «حجاب»، أجرته ماجدة الجندى، فشعرت بأن هذه إشارة ما.
«ميرفت» التى مازالت تؤمن بأن كل شىء كان مرتبًا تماما للتعارف، تتذكر: «بعد رجوعى قلت لصديق لى اسمه نبيل صاروفيم، إننى فى حاجة للقاء سيد حجاب، وبالفعل أعطانى موعدا فى مكتبه بالزمالك بعد أن هاتف حجاب، وبالفعل التقينا هناك، بالضبط فى ٣ نوفمبر ١٩٩٣».
«غنيت أمامه، وقال إن صوتى جميل وظل يسألنى عدة أسئلة».. تقول «ميرفت»، التى ترى أن «حجاب» شاعر قادر على التلاعب بالمفردات، لذا لم تفهمه فى البداية جيدًا، رغم أن له طريقة رائعة، لا يقدر الكثيرون على استخدامها، تشبه السهل الممتنع.
وترجع هذه الموهبة إلى أن كثرة القراءة أثرت عليه ومنحته لسانا يختار بين المفردات فى جزء من الثانية، ليكون جملًا عظيمة، حتى إن الطرف الآخر يدرك مع كل جملة أنه أمام «عبقرى». لقاء الزمالك تبعه مشوار ثنائى إلى عمار الشريعى ليقيّم صوتها، أعقبته لقاءات شبه يومية، لتشتد الصداقة مع الأيام. تقول: «كأنى كنت أعرفه منذ زمن بعيد، لم أكن أفكر فى الزواج فى ذلك الوقت، لكن اكتشفنا أن آراءنا تشبه بعضها، كأنه رأى واحد يصدر عن اثنين، حكاياته الإنسانية الخاصة جدًا لى، كل هذا كان تمهيدًا حقيقيًا لكلمة أحبك».
اللقاءات لم تقتصر على الشعر، فقد كانت دسمة بالفن والثقافة، كانا يذهبان لمعارض الفن التشكيلى، فنضجت على يديه فى رؤيتها للفن التشكيلى، كان فاهما حقيقيا، وتطور الأمر حتى إنه كان يتصل بها لتذهب معه إلى جلسات العمل، وما تتعجب له حاليًا أنها وقتها لم تستغرب الأمر: «كأنه كان شيئًا عاديًا».
تسترجع «ميرفت» مشاهدها الأولى مع حجاب، لتجيب عن سؤال إنسانى محير: «ما هو الحب؟»: «هو أن تحب رؤية حبيبك يوميا، وتشعر باشتياق له، وكأن هذا العالم يخلو من غيره». هذا هو ما حدث لها مع «سيد»، لذا بعدها وبمنتهى الطبيعية، صرح لها بمحبته، وطلب منها الزواج، قائلًا لها: «لما تحسى إنك عايزة تتجوزينى تعالى».
تعود أيضًا إلى فترة الحب البِكر، وتطوف بذاكرة قلبها على أماكن شهدت محبتهما، مثل «الجريون» و«الأوديون» وحارات السيدة زينب، فضلًا عن عشقه قراءة الشعر على مسامعها فى القاهرة القديمة، طوال سنتين كانا لا يغيبان عن رؤية بعضهما يوميًا.
تقول: «من لحظة معرفتنا لم نكن نريد إلا البقاء مع بعضنا، كان كل شىء يتسلسل بشكل طبيعى تماما، حين كان يذهب إلى الإسكندرية كنت أذهب فى الـ(ويك إند) إلى هناك لأراه، حتى تزوجنا ٣ أبريل ١٩٩٦».
اللقاءات اليومية أصبحت امتزاجًا كاملًا بعد الزواج، اعتمد عليها كلية، لكنها كانت تدرك أنه شاعر، وأن الشعر كالعصفور يحب الحرية، فلم تحاول فرض ما يقيد حريته، كان لديها عملها أيضا، ورغم ذلك اقترب منها حتى إنه كره الخروج من البيت فقلت مشاوير خروجهما، وأصبح أصدقاؤهما يأتون إليهما فى البيت، فكان يقول لهم فيما يشبه الفخر: «الست دى اتجوزتنى وستتتنى».

تنبأ بـ «ثورة 25 يناير» فى حوار صحفى عام ٢٠١٠.. وكتب بعض حلقات «الأيام» ومسلسلًا عن طه حسين
تصر «السيدة ميرفت» على أن سيد حجاب تنبأ بالثورة: «كان هناك حوار معه فى (المصرى اليوم) خلال أغسطس ٢٠١٠، وكان مانشيت الجريدة مأخوذًا من كلامه، وهو (نحن فى نفق مظلم وقريبا سنرى النور)، وفى الثورة وجدت الناس تهاتفه وتقول له عرفنا لماذا كنت متفائلا، ربما لأنك تنبأت بالثورة، فقد كان يوقن أن الإنسانية ستنتصر».
أما عن إنسانيته، فتذكر نثرات من فيض، وهى تشير إلى لوحة على الجدار، فتقول: «هذه واحدة من أعمال فنانين من الصعيد، كانوا يرسمونها بحسب القصص التى يحكيها لهم سيد حجاب فى رحلاته إليهم، أهدوها إليه، كان يهتم بهم جدا ويحبونه، وكان دائم التشجيع لهم».
وكمبدع يعادى روتين العادة، لم يكن لـ«حجاب»، حسب كلام رفيقة عمره، نظام وقتى يستيقظ فيه أو ميعاد لنومه، فمن الممكن أن يظل يقرأ طوال الليل، ومن الممكن أن ينام بعد العشاء، حسب مزاجه.
الإبداع أيضًا لم يكن عنده بميعاد، تقول: «كان من الممكن أن يكون موجودًا وسط أصدقائه فيتركهم لدقائق ويقوم ليسجل قصيدة ما ويرجع ليجلس معهم، ومن الممكن أن يصحو من نومه فيكتب شيئا فى نوتة موضوعة بجواره ثم ينام مرة أخرى، وكنت أكلمه فلا يرد، يكون شاردًا فى شىء ما، ويقوم ليكتبه، ويرجع ليكمل كلامه معى، وكان يقول إنه حين يقوم للكتابة فإن الفكرة تكون اكتملت تماما وتستحق الكتابة، وما يضيع منه فهو فكرة غير مكتملة، وبالتالى لا تستحق أن توضع على الورق».
وبقدر أنه لم تكن له طقوس فى كتابة الشعر عامة، إلا أن «حجاب» كان يحضّر لـ«التتر» على وجه التحديد. تقول زوجته: «أولا يجب أن تكون هناك فكرة للمسلسل متوافقة مع قناعاته، ثم يقرأ السيناريو بالكامل، كان يحب معرفة الشخصية وطبيعتها حتى يكتب ما يتواءم معها».
وتوضح: «كانت التترات حجته للوصول إلى أسماع الناس، وكان من الممكن أن يختصر مشاهد لأن ما يقوله يعبر عن المشهد، وهو ما حدث فى مسلسل (الأيام)، فأثناء قراءته سيناريو المسلسل، اختصر حوالى ٤ حلقات وكتب ٣ أخرى أكمل بها السيناريو، وحذف مشاهد كثيرة ليستعيض عنها بالرباعيات».
وقاده تأثره بـ«أيام» طه حسين، حسب حكايا «ميرفت»، إلى كتابة سيناريو مسلسل «وراء النهر»، وهو تكملة لقصة عن طه حسين، مشيرة إلى أنه كتب سيناريوهات أخرى، وشارك فى سيناريو فيلم «مرسيدس» مع يسرى نصرالله.
كتب «حجاب» كثيرًا عن الأطفال، وهو ما تفسره «ميرفت» بأنه: «كان مهمومًا بهم وكأنه طفل كبير يجد نفسه بين جموعهم وفرحتهم، حتى فى كتابته أغانى عفاف راضى وشادية وكاميليا جبران كان يعرف كيف يصل بفكرته إليهم، لأن الأطفال أذكياء لا يقبلون النصائح ولكن حين تقولها وأنت تلعب معهم يتقبلونها بشكل رائع»، مشيرة إلى أنه كتب فى مجلتى «سمير» و«ميكى».
وهناك حكاية شهيرة لـ«مازن أبوغزالة»، الشاب الفلسطينى، صديق سيد حجاب، الذى استشهد فى معركة «طوباس»، تحكيها «ميرفت»: «كان أبوغزالة يستخدم اسم سيد حجاب كاسم حركى، فيما كان سيد حجاب يوقع باسم مازن أبوغزالة فى كتاباته للأطفال، وحين استشهد مازن كتبوا أن سيد حجاب توفى، حتى إن الأمر أحدث دويًا، فقد مات حجاب الذى يعرفونه».

ألّف «سمرا وبعيون كحيلة» على اللحن.. ساهم فى تقديم الأبنودى.. وأطالب بمتحف لعرض مقتنياته أو شارع يحمل اسمه
«كتب حجاب الكثير من الأغانى، وكان يحب الأغنية المشروع، التى تجمع ملحنًا ومطربًا معه، فينسق معهما لكتابة الأغنية، وكان يتعامل مع كل الأجيال، فكان يجمع فى حبه بين عمار الشريعى وياسر عبدالرحمن». تواصل «ميرفت»، مشيرة إلى أنه تعامل مع ملحنين كبار مثل محمد فوزى والموجى وبليغ حمدى، الذى كان مثل أخ له.
وتضيف: «كان فى دماغه شكل جدى للدراما، حين تقابل مع الشريعى وعبدالرحمن، وفى الفترة الأخيرة تعامل مع أحمد ابن على الحجار فى تتر ناجح، وتعامل أيضا مع محمد سعد فى تتر (بنات فى بنات)».
حكايات مختلفة ترويها «ميرفت» عن المفارقات الإبداعية لشاعرنا الكبير، فمثلًا أغنية «سمرا وبعيون كحيلة» كانت لحنًا لياسر عبدالرحمن وحين سمعه «حجاب» أعجبه جدا، فطلب من ياسر أن يكتب أغنية للحن، وفى ألبوم «بتسأل يا حبيبى» لعفاف راضى، حدث نفس الشىء مع أغنية «بيبعتلى هدية».
كان «حجاب» إنسانًا وحرًا فى علاقاته مع الآخرين، تروى زوجته أنه لم يحاول فرض وصايته عليها أو على «ريم» ابنته، ليمثل كل فرد ذاته، حتى مع الأطفال، أولاد أختها الذين أحبوه وصادفوه لأنه احترم حريتهم.
وفى ثنايا الحديث، تكشف «ميرفت» أن زوجها كانت له صديقة تعرف عليها فى ميدان التحرير، اسمها نهال الدليل، كانا يتقابلان وبعدها أصبحت صديقتها أيضا.
تفاصيل كثيرة عن فترة قبل التعارف وعن الأصدقاء والشعر والشعراء، تحكيها «ميرفت»: «بعدما ترك شقة شبرا، انضم للأدباء والفنانين التشكيليين فى شقة العجوزة، وكان الراحل سيد خميس الباحث فى التراث، هو المسئول عنه وعن الأبنودى ماديًا وقتها».
وتكشف أنه أشار على صلاح جاهين بنشر قصيدة لـ«الأبنودى»: «تعرف على جاهين فى ندوة شهيرة حضرها فؤاد قاعود، واحتضنه جاهين فيها وقال: (زدنا واحد). وفى يوم كانت هناك قصيدة جميلة تحتها توقيع عبدالرحمن الأبنودى، فأشار على صلاح جاهين بنشر القصيدة بعد إعجابه بها».
إبداع «حجاب» لم يقتصر على الأغانى الفردية، تقول زوجته إن له مشاريع كان يريد أن يكملها مثل المسرح الاستعراضى والغنائى إلا أن القدر لم يمهله، موضحة أن له إسهامات قديمة فى ذلك المجال، حين قدم أوبرا «السقا مات» و٣ أوبريتات قصيرة عن قصص ليوسف إدريس.
وبينما شاع أن «حجاب» رفض منصب وزير الثقافة فى سنواته الأخيرة، تؤكد زوجته أنه لم يرفضه لأنهم طرحوا اسمه ولم يعرضوه عليه رسميًا، لكنه قال: «أحب أن أمتلك وقتًا حتى أنتهى من الشعر بداخلى».
وتتابع: «كان موضوعيًا وليس متطرفًا فى أفكاره، حتى حين تكلم عن فترة عبدالناصر تكلم عنها بموضوعية جدا، لكنه لم يكن يجد ذاته فى الرسميات، وحكى لى أنه فى إحدى الدول العربية، حاوطه الناس وطلبوا منه أن يسكن معهم بعيدا عن الفندق الذى كان يفترض أن ينزل فيه، حينها قالوا له إنت منا وتشبهنا، وبالفعل ترك حجاب الفندق ونزل يأكل ويشرب مع الناس البسطاء».
وفى النهاية، تتمنى «ميرفت» أن يكون لزوجها متحف، مكان خاص بسيد حجاب تعرض من خلاله مقتنياته وأشعاره التى كتبها بخط يده، أو أن يطلق اسمه على شارع كبير أو مركز ثقافى.