رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

توفيق الحكيم وعوالِم الفرح


قد يحدث أن يتطاول كاتب أو ملحن أو مغنٍ وهو فى بداية مشواره، فيقول متهكمًا «هو فى مطرب يغنى للسد العالى؟!» مواصلًا سخريته على إبداعات جيل الرواد، وفى المقابل يصرح كاتب كبير من جيل الرواد «كُتّاب اليومين دول مبيعرفوش يفكوا الخط».. أمية أبجدية وثقافية، فماذا تنتظرون من ذلك الجيل المسكين؟!.
نعم يحدث ذلك وأكثر، لكن الأمر يبقى فى حدود اعتبارها تجاوزات فردية لا تشكل ما يمكن أن يُطلق عليه حالة من حالات صراع بين الأجيال.. ربما يُفهم مصطلح «صراع الأجيال» عند بحث المبدع فى بداية حياته عن فرصة داخل المشهد الإبداعى، فيبدأ رحلة تقديم موهبته أمام الكبار، وتتوقف الحكاية على مدى نجاح المبدع الصغير فى تقديم نفسه، ودرجة استيعابه إبداعات سابقيه، وعلى الجانب الآخر مدى تقدير المبدع الرائد للظروف التى تحيط بالمبدع الصغير، واختلاف شكل ونوعية المتلقى فى الزمن الحاضر.
تبدو إذن، فى حالة الكتابة الأدبية التى هى فعل فردى، فكرة تسليم الرايات من جيل إلى جيل، أكثر إنسانية من فكرة الاقتناص التى تصور جيلًا يسعى لإزاحة جيل سابق والجلوس مكانه، ليمارس أول ما يجلس نفس ما كان يفعله الجيل السابق، فى الاستعداد للدفاع عن نفسه ضد جيل قادم، لأن فكرة التسليم والتسلم تحمل فى داخلها معنى التعايش والتجاور والتأثير والتأثر، والتعاقب الذى ينتهى مع دورة الحياة الإبداعية بتسليم الراية.
ولكن ما يمكن ملاحظته، هو افتقاد تلك الحالة الحميمية من التواصل بين الأجيال بما يسمح بنقل الرؤى والأفكار، ونقل تكنيك المدارس الإبداعية المختلفة.. أستأذن القارئ العزيز لنقل جانب من حوار رتبت له جريدة أخبار الأدب.. الكاتب المسرحى الشاب نعمان عاشور يسأل، والكاتب المسرحى الكبير والرائد توفيق الحكيم يجيب.
■ كيف اتجهت إلى الكتابة للمسرح، وما مدى تأثرك بالنشاط المسرحى المعاصر لبداية اتجاهك هذا، وهل وعيت وتأثرت بامتدادات المسرح الذى وجد قبلك؟!
- شاهدت مسرحيات الشيخ سلامة وهو فى أواخر عهده حوالى عام ١٩١٤ قبل نشوب الحرب العالمية الأولى، ومسرحيات جورج أبيض فى بداية عهده بالتمثيل العربى، ودفعنى ذلك إلى محاولة تأليف مسرحيات قصيرة نمثلها بأنفسنا فى فرق هواة ننشئها، إلى أن ظهرت نهضة مسرحية على إثر التفات الاقتصادى الوطنى طلعت حرب إلى فن التمثيل وتشييده مسرح حديقة الأزبكية، فكان ملتقى أهل الفن من كُتّاب مسرح وملحنين ونقاد وممثلين، وكان يشترط المسرحية المصرية، ولذلك لجأ الكُتّاب إلى التمصير، من عرف لغة أجنبية نقل عنها ومصّر حوادثها وأشخاصها، وكنت فى ذلك الوقت على وشك الانتهاء من دراسة القانون، وما يقتضيه من معرفة باللغة الفرنسية، ففعلت ما كان يفعله غيرى فى ذلك العهد من النقل والاقتباس والتمصير.
■ بدأت الكتابة للمسرح كعرض تمثيلى باللغة العامية.. ثم اتجهت إلى الكتابة باللغة الفصحى وتضمين مسرحياتك فى كتاب للقراءة.. ما العوامل التى دفعتك إلى هذا الخطر؟! وما مدى تقديرك هذه الخطوة بالنسبة لمسرحك خاصة.. وبالنسبة للمسرح المصرى بل للأدب المسرحى العربى على وجه العموم؟!
- ذكرت أن طلعت حرب اشترط المسرحية المصرية، فكان لا بد لنا من أن نجعل الشخصيات المصرية تتحدث بلغتها فى الحياة، أى بالعامية، ولكن عندما تقرر لمسرحياتى أن تقرأ فى كتاب، وأن تكون فرعًا من الأدب العربى الحديث، كان لا بد من كتابتها باللغة الفصحى، والدافع إلى هذه الخطوة هو ما كان عليه المسرح ورجاله فى مصر وقتذاك من هوان الشأن بالنسبة إلى الأدب والأدباء، لأن الأدب النثرى المعترف به فى ذلك العهد كان أدب المقال، لما فيه من بلاغة وثقافة وفكر، فخضت المحاولة لجعل المسرحية أدبًا مرتفعًا بالفكر ليصبح فرعًا معترفًا به، وهذه الخطوة سواء بالنسبة لمسرحى خاصة أو بالنسبة للمسرح العربى عامة، كانت ضرورية ليحظى كُتّاب المسرح والمسرحية عندنا بالاحترام والسماح لها ولكُتّابها بالانتساب إلى الأدب وأهله.
■ تنفرد بأنك الكاتب الوحيد من أبناء جيلك الذى أبدع فنًا متصلًا فى ميدان المسرح.. فما موقف جيلك هذا.. جيل طه حسين والعقاد والمازنى من المسرح ومدى فهمه وتذوقه وإدراكه فن الدراما؟!
- ربما لأنى الوحيد من أبناء جيلى الذى بدأ من بيئة الفن ليصل إلى الأدب.. بينما الآخرون، ممن ذكرت، بدأوا من الأدب ليصلوا إلى الفن، لقد نشأت بين عوالِم الفرح وآلات العود والرق والطبلة، فى حين نشأ الآخرون بين الكتاتيب والمحفوظات، لقد نشأت مع الفن ونشأوا هم مع الكتب، وعندما كبرنا كنت أنا فنانًا يريد أن يحيط بالثقافة، وكانوا هم مثقفين يريدون أن يحيطوا بالفن، كان الفن عندى فطرة والثقافة اكتسابًا، وكان الفن عندهم هو الاكتساب، والثقافة هى الفطرة، ولذلك كان اتصالهم جميعًا بالفن عن طريق الكتاب.. ولذلك لم يحترموا الفن أو يقدروه إلا عندما يجدونه محترمًا فى كتاب، أما الاتصال المباشر بالفن فلا أظن أنه بالنسبة لهم شىء مهم فى حياتهم، كما أن الفهم والتذوق والإدراك لهذا الفن عنهم، إنما يأتى عن طريق ما يطالعونه عنه فى الكتب، وليس فى حياة الفن نفسه.