رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التهميش فى "استراحة الباويطى"


تعد رواية "استراحة الباويطي"، للكاتب عبد الناصر العطيفي، مثال نموذجي لتعريف الرواية، بأنها مرآة كاشفة لخبايا المجتمع وأدق تفاصيله والزوايا المهملة فيه، وتفتح الأبواب المغلقة، وتشرع النوافذ للشمس والهواء والكلمات، تلك التي تنهمر من يد الكاتب لتصور الحياة من زوايا داكنة.

الرواية من روايات الصحراء، تندرج ضمن السرد الواقعي، الذي ينتمي إلي الطبيعة بمعالمها ومظاهرها ومحاكاتها، في مقابل السرد المتخيل في الأعمال الأخري، من يكتب عن الصحراء يكتب عن معايشة حقيقية بعيدا عن ألاعيب الخيال والحيل السردية والفنية التي يقوم بها كتاب الروايات الأخري.

المكان في الرواية قادر علي خلق أفكار جيدة تدفقت من خلال السرد ليبوح بمكنونه المميز له عن معظم الأمكنة في الروايات الأخري، الفضاء والصحراء والضوء المبهر والاتساع، كل هذا يعطي مجال لأفكار تتناسب مع زخم الصحراء في صمتها الرهيب.

الزمن في الرواية يتراوح ما بين الحاضر والذي يحكيه المؤلف، مع عودة إلى تيار الوعي ليتذكر لحظات في حياته، منها معاكسته للمعلمين ومجموعة، وذكريات طفولته، ثم يجنح إلى المستقبل من خلال مشروعه الذي انتوي أن ينفذه في تلك الأرض البكر التي زارها.

سرد الصحراء، كسرد واقعي له مقومات وأركان ؛ فعكس بقية أنواع السرد الأخري تتسم رواية الصحراء بواقع حقيقي ملموس من خلال المعايشة الفعلية لفضائها ومظاهرها الثقافية وثقافتها، سواء كانت أحداث ووقائع ومغامرات عاشها الكاتب قبل كتابتها وتضمينها بشكل من الأشكال في عمله، لذلك كثيراً ما يكتب بعض رواد السرد الصحراوي تجاربهم في هذا النمط في أعقاب رحلة عايش فيها تلك الطبيعة ومر فيها بتجربة ما، كما فعل موسي صبري في فساد الأمكنة، وأشرف الخمايسي في روايته الرائعة منافي الرب، وسعيد رفيع في روايته الجميلة النجوم تغضب أحيانا.

"استراحة الباويطي" تنقلنا نقلة مفاجئة من القاهرة إلي مكان يبتعد عنها بمسافة لا تعتبر كبيرة بمقاييس المواصلات الحديثة والإتصالات، ولكنه مكان أقل ما يقال عنه أنه مهمش، وسكانه مهمشون، وزواره الرسميون مهمشين أيضا.

تطرح الرواية من خلال أشخاصها ومواقفهم عدة إشكاليات تواجه المصرييين، ومنها:
قضية تهميش المواطن المصري البسيط، والذي هو البطل الرئيس المستتر للرواية، والذي أناب عنه مجموعة من معلمي المرحلة الثانوية في واحة الباويطي، هي إحدى مدن مركز الواحات البحرية بمحافظة الجيزة.

قضية اهتمامنا بإطلاق أسماء شخصيات الاستعمار الأجنبي على الشوارع الهامة في بلدنا، يقول الراوي علي لسان البطل "البلد الوحيدة في العالم التي تخلد الغرباء، حتي ولو كانوا أعداء البلاد، وانبعثت تساؤلاتي من داخل نفسي، هل هي طيبة المصريين، أم هي قلة الزعامات الوطنية والرموز.
ويشير المؤلف الي أسماء "ماسبيرو"، "شامبليون"، "كلوت بك"، "هامفرست"، "ستانلي"، "سوكارنو" و"شاركل ديجول".

ثم يتسائل، هم سبب تسمية تلك الواحة بالباويطي، وماذا فعل ليطلق اسمه علي تلك الواحة الكبيرة.

تطرح الرواية موقف الكاتب , وهو المواطن العادي المهمش كما ذكرنا , من ثورة يناير 2011, عندما كان عائدا من معرض الكتاب , ويجد ميدان رمسيس , وقد تحول الي ساحة إقتتال , بشر يجرون في كل مكان , بضائع تتناثر , مم ذكره بالرعب الذي اصاب المصريين في زلزال 1992ويجد نفسه عالقا وغير قادر علي العودة أو مواصلة السير , وعلي الفور يتذكر الفلسطينيين العالقين علي الحدود , ولكنه يذكرنا أيضا بمذبحة ستاذ بورسعيد .

يتحدث الكاتب عن الملل الذي كان يعاني منه هو وزملاءة . " الوقت يمر بطيئا , ننام ونستيقظ, ونعود لننام في انتظار آذان العصر . ثم ننام , ونستيقظ في إنتظار آذان المغرب , ليست من وسيلة للترفيه هنا , وأقصي ملا يمكن فعله , هو الخروج فور مغيب الشمس الي فناء المدرسة المتصلة بالإستراحة , وإفتراش حصر البلاستيك , أو الملاءات , والبقاء عليها قعودا أو نياما بجانب التليفونات , التي ما ان تفرغ المكالمة حتي ترسل بعضا مما حملته بطونها من أديعية وقرآن وأغان . ولا شئ شيئ ممكن ان يسحب الوقت سوي التليفزيون.

ويقول الكاتب أن المأمورية الي الباويطي تزامنت مع مباريات كأس العالم , وكان هناك تليفزيون في المدرسة , هيأوا له طبق ليستقبل مباريات كأس العالم , هنا يطرح المؤلف قضية من اخطر القضايا , وهي قضية التهميش العام للمواطنين العرب , عندما رفضت قناة الجزيرة القطرة ان تبث المباريا مجانا مما حرم الملايين من متعة متابعة المباريات واذاعها تليفزيون اسرائيل , وهنا يتجلي الموقف الوطني الجميل للمؤلف البطل عندما يعلن " أقسمن له لو والدي الذي مات من سنين , طلع من قبره , ولعب في المباراه , ما وقفت أمام شاشة , يأتي صوت المذيع فيها من إسرائيل ." ويقول في اسي " إسرائيل تبث مباشر لأن الحكومة هناك حاطة المواطنين في دماغها , وتحرص علي توفير أكبر قدر من الرفاهية لمواطنيها ".
تطرح الرواية فيما تطرحه من قضايا تهميش , عملية تهميش المراة عندنا , ونظرة الرجال إليهن , وكان البطل قد أمضي اسبوعا كاملا في الباويطي دون أن يشاهد نساء , ويقول علي لسان صديقه " البلد اللي مفيهاش نسوان , مفيهاش خير ".. وسرعان ما يجد ثلاث سيدات جئن ايضا لنفس المأمورية , وجاءت واحدة منهن لتوقع في دفتر التوقيعات وفجأة ضربت علي الترابيزة بيدها وزعقت في زميلة الذي كان يحملق فيها " .. أنت بتبحلق في كدا ليه , مشفتش نسوان قبل كدا " وهي كلمة تطرح معان كثيرة , كانت شاهدة علي نوع من الكبت رغم وجدود نسبة هائلة منالنساء في الوادي والمدن والقري , ولكن في الباويطي كان الوضع العن .

ولم يجد البطل سوي أن يتآمر مع زميل ليصعد اعلي المبني ليغير اتجاه الطبق .

السرد شيق , والأسلوب مناسب ومتسق تماما مع بساطة المكان وطبيعته . أخذنا معه الكاتب عبد الناصر العطيفي في رحلته الرسمية اليالمنطقة التي إختارتها له الوزارة ليراقب فيها في إمتحانات الثانوية العامة , ومعه مجموعة من زملاءه المدرسين , في غرب الوادي الجديد ليحدثنا عنها , ونجد أنفسنا منغمسين معه في مفردات الحياة في تلك الصحراء القاسية , مع أشخاص يتمتعوا يحس إنساني راقي , ونشعر معه أن الحياة وضعتهم علي هامشها , فلا هي جعلتهم يعيشون في مدينة أو قرية علي النيل حيث الرخاء والثبات والخضرة , ولا ايضا جعلت حياتهم في الصحراء ناعمة وسهلة, ولكنها أجبرتهم علي العيش في الوديان بين الجبال وفي قمم الصخور في حالة صراع مستمر .

يبدا الكاتب روايته بالشعور بالتهميس لأنه أصبح معلما , لأن المهنة في نظرة مهمشة , ويبدأ بالعتاب علي مجموعه في الثانوية العامة الذي قذف به إلي كلية دار العلوم ليتخرج منها معلما , ويستعرض ما كان يفعله مع معلميه عندما كان صغيرا , وهو ما جعله يشعر بالندم أن أصبح معلما , ويلازمه هذا الندم خلال رحلته ولكن لا يصرح به , نشعر به من ثنايا كلماته .

" .. تلك المهنة كنت أمقتها وأنا في سن مبكرة من عمري الغابر , فما يحدث للمدرسين أمام عيني , من إهانات أو إساءة , وما يعرض – يوميا – علي صفحات الجرائك , وفي برامج التليفزيون من جرائم , يكون المدرس طرفا فيها , كل ذلك جعلني انفر وأشمئز من تلك المهنة . "

التهميش شعور داخلي متاصل متأصل داخل ذهن الكاتب , يعبر عنه في لحظات الضيق , وعندما اصيب بحصوات في الكلي , وحاول أن يتردد علي عيادات التأمين الصحي , وجد انه مهمشا هنا , فقال :
".... إتخذت قراري الحاسم , انهم لو فرشوالي الأرض ذهبا , ما ذهبت الي ذلك التأمين أو مستشفياته الميتة ."

كما يظهر الشعور بالتهميش عندما يصل الي مقر اللجنة حيث توجد استراحته في الواحات , فيعبر بلغة سرد بسيطة , " الواحات , ذباب متوحش بالنهار , وناموس ضار بالليل , وقد تزحف الهوام والعقارب الي السرير .."

يحكي عن معاناته في الحر , ومعاناته في الإستراحة , ومعاته في الطعام , كل شئ هنا يعاني منه هو وزملاء .

يجيد الكاتب وصف زملاءه ,في مناطق عديدة من روايته , أوصاف عميقة ليست سطحية , تكشف عن تهميش حاد , وتكشف أيضا عن مكنونهم الداخلي , فتنقل لنا صورة حية عنهم .

" محملا بهموم الدنيا . بدا من خلال مشيته وهو يحمل السرفيس فارغا , يتجه به الي المطبخ , ملابسه غير المتسقةذكرتني بأيام العوبية التي غرقت في بحرها , ولم ينتشلني منها سوي الصدفه , بيجامة مخططة موديل السبعينات إحتوت الجسد الفارغ , شارب ارتخي فوق شفتين غليظتين , وعينان حمراوان تطلان كفوهتي بركان , إشتعلتا لتوهما , وشعر أشيب مهوش ’ "

يختتم عبد الناصر العطيفي روايته بالحديث عن معاناته بعد رجوعه من الواحات , من إنسداد الحالب , والذي لن تفلح العلاجات التي احضرها معه من الوحات في التخلص من تلك اآلام ليضطر الي إجراء عملية علي حسابه الخاص , رعم خضوعه لنظام التأمين الصحي , وكان يشغله كيفية توفير المبلغ المتفق عليه مع الطبيب.

مع أن كاتبنا أقسم ألا يدخل التامين الصحي إلا أنه يوجهنا بحتمية ذهابه الي التامين الصحي للحصول علي أجازة مرضية بسبب العملية التي اجراهاوغيابه عن العمل , وهناك يعاتبه طبيب التأمين الصحي ,قائلا " مش كنت عملتها عندنا , صحيح مستشفياتنا ميته , لكن ممكن نتصرف ونعملها "
ثم اجري الطبيب سن القلم الأحمر اسف الخطاب , وأشار الي الحجرة التي ساختم فيها بخاتم النسر , ليبرز النسر فاردا جناحية , في قمة التعبير الميلودرامي عن مدي التهميش الذي يعانيه المصري مع حكومته.

لم يفقد الكاتب الأمل تماما في إمكانية تحسن الأحوال بإقامة ذلك المشروع الذي فكر فيه في تلك الأرض البكر واحة الباويطي.