رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قديس الثورة.. أسرار يوسف صديق

جريدة الدستور

يهل شهر يوليو فتطل ذكرى الثورة، ولما تهل ذكرى ثورة يوليو يطل وجه يوسف صديق منصور، قديس الثورة ومنقذها وضحيتها أيضًا. توقظ الذكرى سيرته وعلامات الاستفهام الكثيرة التى تحيط بها، فتجد نفسك شغوفا بصاحبها، الرجل الذى كُتب عليه أن يدفع ثمن بطولته، فيدخل السجن وتُحدد إقامته ويُمنع من حصد ثمار ثورته، ويُفرض على سيرته ستار كثيف من النسيان والتعتيم والتشويه.. حيا وميتا. ورغم مرور ٤٣ سنة على رحيله و٦٦ سنة على ثورة يوليو مازالت فى حياة يوسف صديق وسيرته مفاجآت جديدة وحكايات لم ترو بعد، وهى المهمة التى قمنا بها بصحبة ابنته الكبرى سهير، التى عاشت معه تفاصيل المأساة. كانت صبية صغيرة لم تزل عندما دق جرس باب بيتهم فى حلمية الزيتون، فتحته فوجدت شابا أسمر مهيب الطول والطلعة يرتدى بنطلونا رماديا وقميصا أبيض ويسأل عن والدها، أخبرته بأنه نائم فطلب منها بذوق لا يُرد أن توقظه، طيب نقول له مين؟ سألته، قولى له: جمال.

ووجدت سهير الصغيرة نفسها فى ورطة، فهى تعرف أن والدها ينام بعد الغداء، ولا يجرؤ أحد على أن يوقظه فى ساعات القيلولة، مهما كان السبب، ومن يجرؤ يتعرض لعقاب أليم، ومع ذلك فتحت عليه الباب ونادته فى هدوء حذر: واحد اسمه جمال يسأل عليك، وبمجرد أن سمع الاسم قفز من سريره وارتدى ملابسه بسرعة وخرج إلى ضيفه وسلم عليه بحرارة وانطلق معه فى سيارته الأوستن الصغيرة. كانت هى المرة الأولى التى ترى فيها الشاب الأسمر الذى قُدر له بعد سنوات قليلة أن يغير التاريخ، وأن يرتبط به مصير وطن وأمة ومصير والدها أيضًا. قبلها قُدّر لسهير الصبية أن تكون شاهدة على لحظة تاريخية أخرى، كانت فى العريش مع والدها تقضى معه أياما من إجازتها المدرسية الصيفية، وجاءه ضابط من تلاميذه الذين درسوا على يديه التاريخ العسكرى فى كلية أركان الحرب، جلسا يتهامسان لدقائق أخرج خلالها الضابط الشاب ورقة من جيبه تلا على أستاذه سطورا منها، بعدها أصبح يوسف صديق عضوًا فى تنظيم الضباط الأحرار، كان هذا الضابط الشاب هو وحيد رمضان، الذى أرسله عبدالناصر لإقناع يوسف صديق بالانضمام للتنظيم، وكانت الورقة التى يحملها فى جيبه تتضمن المبادئ الستة لثورة يوليو وثوارها. يومها همس له وحيد رمضان أن فى منطقة العريش عددا من أعضاء التنظيم عليه أن يتعرف بهم وينسق معهم، وعليه أن يبدأ بمسئول التنظيم فى «رفح»، وذهب إليه يوسف صديق بترتيب خاص، ولما رفع غطاء الخيمة ليدخل على زميله فى التنظيم السرى فوجئ بأنه أنور السادات، وكان اسم السادات وقصته معروفة بين ضباط الجيش منذ اتهامه فى قضية اغتيال أمين عثمان، ويعرف الجميع علاقته بطبيب القصر د. يوسف رشاد ودوره فى إعادته للخدمة العسكرية.. وتشكك يوسف صديق للحظات وعبثت برأسه الظنون قبل أن يلتقى بالسادات لأول مرة.

السادات وافق على إقامة جنازة عسكرية له وقرر حضورها لكن النبوى إسماعيل منعه
المدهش أن السادات- الذى تشكك فيه يوسف صديق- كان الأكثر تقديرا له ولدوره التاريخى فى ثورة يوليو، وهو ما تجلى فى المشهد الأخير من حياة يوسف صديق، وبعد سنوات مريرة عاشها الرجل فى الظل مُبعدا وسجينا ومحدد الإقامة ومحروما من أى دور وتقدير فى زمن عبدالناصر.
تحكى لى سهير صديق: عندما كان والدى فى ساعاته الأخيرة بمستشفى المعادى العسكرى كلمنا عبدالمجيد شديد، أمين الاتحاد الاشتراكى وقتها، وأبدى تقديره للوالد واستعداده لتقديم أى خدمة تطلبها أسرته، وبتعبيراته التى مازلت أذكرها: يوسف صديق ده ابن الثورة ورجلها وإحنا كلنا تحت أمركم، ولما توفى فى ٣١ مارس ١٩٧٥ عاد عبدالمجيد شديد يتصل بنا ويطلب أن نزوره فى مكتبه للاتفاق على ترتيبات الجنازة والعزاء، رحت له أنا وأخويا المحاسب محمد، الله يرحمه، وأخويا ضابط الشرطة حسين، الله يرحمه، ولما دخلنا المكتب لقينا عبدالمجيد شديد ووحيد رمضان ومحمد السقا، وكلهم من تلاميذ والدى فى حالة بكاء هستيرى، حزنا على يوسف صديق، وطلب شديد أن نكتب نعيا لنشره فى الصحف، ولما كان زوجى المهندس محمود توفيق فى المعتقل يومها، فقد ذهبت إليه فى أبوزعبل ليكتب النعى بحكم أنه مثقف وشاعر وكان قريبا من الوالد.

فى تلك الأثناء، مر الأستاذ خالد محيى الدين ببيتنا فأخبرته والدتى أننا فى مكتب عبدالمجيد شديد فجاء إلينا، وأشار لى من الخارج فذهبت إليه وسألنى: اتفقتوا على إيه؟، أخبرته بأنهم سيقيمون عزاء للوالد فى عمر مكرم وثلاثة أيام فى بيتنا، فأبدى عدم رضاه عن العرض، وقال لى لما تدخلى اطلبى الآتى: جنازة عسكرية، نعى فى كل الصحف ونبذة عن تاريخ والدى، أن يخرج زوجى من المعتقل ليشارك فى الجنازة، ولما رجعت المكتب قررت أن أكون فى غاية الجرأة، فليس لدى ما أخسره، زوجى فى المعتقل ووالدى فى الثلاجة، وقلت لعبدالمجيد: الحقيقة ما عرضته نقدر إحنا نعمله دون مساعدة، سألنى: تحت أمرك إيه طلباتك؟، فأعدت عليه ما قاله لى الأستاذ خالد، فتغير وجهه وبانت عليه الحيرة، وقال: دى طلبات تحتاج إلى موافقة الرئيس السادات شخصيا، قلت له: إحنا فيها اطلبه فى التليفون، فقام إلى حجرة مجاورة وكلم الرئيس فى استراحة القناطر، وعاد إلينا متهللا: الريس وافق على كل طلباتكم.. وقال لى كل اللى تطلبه أسرة يوسف صديق مجاب بلا تحفظ.

وبالفعل أقيمت لوالدى جنازة عسكرية مهيبة، حضرها أغلب أعضاء مجلس قيادة الثورة الباقين يومها على قيد الحياة، محمد نجيب وحسين الشافعى والبغدادى وكمال الدين حسين وخالد محيى الدين.. وحسب ما عرفت فيما بعد أن الرئيس السادات قرر أن يكون على رأس الجنازة العسكرية، لكن وزير داخليته النبوى إسماعيل اعترض بشدة لأسباب أمنية، وقال للرئيس: الجنازة ح يكون كلها شيوعيين.. وأنا مش ضامن إيه اللى ممكن يعملوه، فتراجع السادات وأرسل مندوبا عنه.
وأعادت الصحف الاعتبار لوالدى ولتاريخه بعد سنوات طويلة من التعتيم على سيرته ودوره، لدرجة أن عبدالناصر لم يشر إلى دور يوسف صديق إلا فى العيد العاشر للثورة وفى إشارة سريعة مقتضبة، حتى إن والدى أرسل إليه بعد الخطاب برقية يقول له فيها: كل عشر سنين وإنت طيب.

عبدالناصر أبعده عن مجلس قيادة الثورة ونفاه وسجنه فكتب فيه قصيدة رثاء
الحقيقة أن العلاقة بين عبدالناصر ويوسف صديق كانت ملتبسة فى أغلب الوقت رغم تقدير عبدالناصر ليوسف صديق وامتنانه لما قام به فى ليلة الثورة، واقتحامه بقواته مقر قيادة الجيش واعتقال كبار الضباط الموالين للملك فاروق، وقبل كذلك انتمائهما الفكرى لليسار المصرى ولحركة «حدتو»، لكن السلطة كانت لها حسابات أخرى حددت المصائر وفرقت الطرق.
كان يوسف صديق- بحكم دوره فى الثورة وتاريخه الوطنى والعسكرى- من بين التشكيل الأول لمجلس قيادة الثورة، المجلس الذى تولى حكم مصر بعد خلع الملك وإعلان الجمهورية، وفى اجتماعات المجلس بان منذ اللحظة الأولى أن يوسف صديق يسير عكس التيار السائد، ومواقفه لا تتسق مع الباقين، وهو ما تجلى مثلا فى رفضه القاطع والغاضب لقرار إعدام الشابين خميس والبقرى عاملى مصنع كفر الدوار، وفى مطالبته بعودة الحياة السياسية والحزبية وتشكيل حكومة ائتلافية، بزعامة الوفد، تتولى تنظيم انتخابات حرة يعود الجيش بعدها إلى ثكناته.
أصبح يوسف صديق «صداعا» فى رأس عبدالناصر ومجموعته فى مجلس القيادة فتقرر إبعاده، تحكى لى سهير صديق: وضحت النوايا عندما بادرت مجلة المصور بعمل هدية تذكارية تجمع صور أعضاء مجلس قيادة الثورة بعد تشكيله، وكان فيها صورة يوسف صديق، ولما عرف عبدالناصر اتصل بحلمى سلاّم، رئيس التحرير، وطلب منه وقف طباعة الهدية وأرسل قوة إلى المطبعة صادرت ما تم طبعه، وكانت الحجة أن المجلس سيشهد خروج اثنين من أعضائه قريبا، والهدية بتشكيلها وصورها ستحدث بلبلة، وسيسأل الناس حتما عن الأسباب التى استدعت خروج العضوين.. يوسف صديق وعبدالمنعم أمين، لكن نسخا قليلة من الهدية تسربت من المطبعة وما زلنا نحتفظ بواحدة منها.
طلب بعدها يوسف صديق «وكان برتبة بكباشى» إعادته إلى صفوف الجيش واستئناف عمله كضابط، فطلبوا منه أن يسافر إلى أسوان ليهدئ أعصابه هناك، وأرسلوا معه مرافقين من الضباط «وحيد رمضان ومحمد السقا»، وفى ليلة سفره مر على قريته زاوية المصلوب فى بنى سويف ليزور ابنته سهير، العروس الجديدة، وزوجها المحامى الشاب محمود توفيق، ابن خاله، وبعد ساعات من وصوله أسوان جرى اعتقال محمود توفيق وعدد من أفراد أسرة يوسف صديق، ولما سافرت إليه سهير لتخبره بما حدث أدرك أنها رسالة موجهة إليه ووسيلة ضغط عليه ليسكت ويبلع لسانه، الذى لم يتوقف عن انتقاد قرارات مجلس قيادة الثورة ومواقفه، فعاد غاضبا إلى القاهرة، وحدث أن جاءه صلاح سالم إلى بيته، ودار بينهما حوار ملتهب، قال فيه صلاح سالم قولته المرعبة: الثورة لها ثمن.. وإيه يعنى لما نموت مليون واحد علشان بقية الشعب يعيش كويس.
ووجد يوسف صديق نفسه منفيا فى سويسرا عام ١٩٥٣ بحجة إجراء فحوصات طبية، ورغم روعة البلد وسحره إلا أن يوسف صديق لم يتحمل برودة المنفى، فطلب العودة ولكن طلبه قوبل بالرفض: لسه شويه، وكان الحل الوسط أن يسافر إلى بيروت، وفى لبنان جرى تكليف الملحق العسكرى بسفارتنا هناك «اللواء جمال حماد» بأن يراقب تحركات يوسف صديق، فاستعان بحراس لبنانيين يراقبونه طوال الوقت.
وتكمل سهير صديق الحكاية: لكن والدى استقطب الحراس اللبنانيين بحكاياته وخفة ظله وسحر كلامه فساعدوه على الهرب إلى مصر، وعاد والدى إلى قريته فى بنى سويف، ومن هناك أرسل برقية للرئيس محمد نجيب يخبره بعودته، وخلال ساعات جرى إعلان حالة الطوارئ فى بنى سويف، وجاء عشرات من المخبرين ليضعوا والدى تحت الإقامة الجبرية، ولما علم عبدالناصر بعودة والدى اتصل بجمال حماد، الذى لم يكن يعرف بعد بهروب والدى، وسأله بجدية عن أحوال ضيفه غير المرغوب فيه فطمأنه جمال حماد بثقة أنه يراقبه ليلا ونهارا، فقال له عبدالناصر بسخرية: تمام.. تمام.. ما هو علشان كده يوسف صديق وصل بنى سويف.
وكان على والدى أن يعود للقاهرة ليلحق أولاده بالمدرسة، فتقرر أن يوضع تحت الإقامة الجبرية فى بيتنا بحلمية الزيتون.
ومُنع والدى من ممارسة أى نشاط، فرفضوا طلبه بأن يرأس دار الكتب بعد أن خلا المنصب بخروج توفيق الحكيم، ورفضوا طلبه بالترشح فى انتخابات البرلمان عن دائرته فى بنى سويف، فقط سمحوا له بالخروج بعد أن تطوع ليقود المقاومة الشعبية فى منطقة المرج أثناء العدوان الثلاثى عام ١٩٥٦.
وكان والدى يفرق تماما بين خلافه السياسى مع عبدالناصر وعلاقته الإنسانية معه، بدليل أنه زاره بعد نكسة ١٩٦٧ ليشد من أزره، ويقول له إنه خسر معركة ولم يخسر الحرب وكل الوطن وراءه لإزالة آثار العدوان.. وبدليل أنه لما مات عبدالناصر فى سبتمبر ١٩٧٠ كتب فيه والدى قصيدة من أروع وأصدق ما قيل فى رثاء عبدالناصر.. وبدليل أن والدى عندما كتب مذكراته توقف عند ليلة الثورة ولم يتخطها، خشية أن يصل إلى خلافاته مع عبدالناصر بعد الثورة فيستغلها أعداء الرجل وخصومه.

زكريا محيى الدين اعتقل زوجته الثانية بتهمة الشيوعية
بالطبع كان يوسف صديق، المولود فى ٣ يناير ١٩١٠، يشعر بالمرارة مما جرى له بعد الثورة، وكيف أصبح ضحيتها بعد أن كان بطلها، لكنه أبدا لم يفكر فى الانتقام ولم يشعر أبدا بشماتة فيمن آذوه وآذوا أسرته.. وهنا تتوقف سهير صديق عند واقعة تجمع بين الطرافة والمرارة والإثارة تحكى: كان زكريا محيى الدين لديه موقف حاد وعصبى من اليسار والشيوعيين، ولما تولى وزارة الداخلية وصلته تقارير تفيد بأن زوجة يوسف صديق لها موقف معارض تعلنه فى كل مكان تذهب إليه، احتجاجا على اعتقال زوجها فى السجن الحربى، وفوجئنا بزوار الفجر ذات ليلة يقتحمون منزلنا، كان عمرى أيامها ١٧ سنة، وكنت قد أنجبت ابنتى ليلى قبلها بشهور، دخلوا إلى المطبخ وخرجوا بمنشورات تخص تنظيم الراية الشيوعى، أخرجوها من خزينة تخص خادمتنا فاطمة، وقرر الضابط أنها تخص والدتى وأبلغها أنه مقبوض عليها بتهمة حيازة منشورات تحرض على قلب نظام الحكم، ولما كانت والدتى سيدة ليس لها فى السياسة ولا يحزنون فلم تفهم شيئا، وطلبت أن تتصل تليفونيا بالرئيس محمد نجيب وكان جارا لنا فى حلمية الزيتون وزوجته صديقة لأمى، لكن الضابط رفض وأصر على أن يصطحبها إلى قسم الشرطة، ورفض حتى أن يرافقها شقيقى، وقد كنا فى وقت متأخر من الليل.
وما إن دخلت قسم الشرطة حتى تعرف عليها محمد السقا، وكان ضابطا فى القسم وله صلة بأسرتنا، وأدرك فورا الورطة التى وقعوا فيها، فقد كانت تعليمات زكريا محيى الدين اعتقال زوجة يوسف صديق، لكنهم اعتقلوا الزوجة الأولى وليست الثانية المطلوبة، وأفرجوا عن أمى فورا وأعادها السقا بسيارة القسم، فذهب الضابط بالمنشورات «المفبركة» لاعتقال زوجة أبى الثانية، فأطلقت لسانها فى زكريا محيى الدين فتأكدوا أنها المقصودة، وفى التحقيقات اكتشفوا أنهم وقعوا فى خطأ فادح، فالمنشورات تخص تنظيم الراية، فى حين أنها كانت فى تنظيم حدتو، وبجرأة طلبت شهادة جمال عبدالناصر، وقالت إنه الوحيد الذى يملك دليل براءتها، لأنه كان زميلها فى حدتو وليس الراية، والمنشورات التى ضبطوها لا تخصها، فأفرجوا عنها رغما عنهم.

«منقذ ٢٣ يوليو» يبحث عن شقة لا يتجاوز إيجارها 6 جنيهات
دفع يوسف صديق ثمنا باهظا لمواقفه السياسية والوطنية، سنوات طويلة من النفى والسجن والإقامة الجبرية والحرمان من الحياة الطبيعية لرجل حمل رأسه على كتفه ليلة الثورة، وكان أول من سيعلق رأسه على المشانق إذا فشلت، وفوق ذلك شائعات سخيفة حاولت النيل من الرجل والتقليل من دوره، على رأسها ما قيل عن خروجه من المعسكر فى ليلة الثورة قبل ساعة الصفر، بل وصلت السخافة والتشويه لاتهامه بأنه لم يكن فى حالة اتزان ووعى كامل، وأنه وصل إلى قيادة الجيش قبل ساعة الصفر بساعة، وأنه تصرف من نفسه واقتحم القيادة واعتقل رجال الملك.. فهذا تزوير للتاريخ فاضح، ولدى سهير صديق رواية، نقلا عن والدها بالطبع، تؤكد أن يوسف صديق تحرك بعدما اكتشف أن الملك ورجاله بدأوا فى التحرك لإفشال الثورة وأنه بتحركه أنقذ الثورة.
تحتفظ سهير صديق بكل أوراق والدها، بما فيها رسائله الشخصية إليها وإلى والدتها وزوجها محمود توفيق، وتدل خطابات يوسف صديق على ثقافة عالية وخفة ظل لافتة وعلى روح عاشقة للحياة لم يعكرها ما مر به من محن وأزمات كما تدل على أن الرجل عاش نزيها ومات كذلك، لم ينل مكاسب ولم يحقق ثروة ولم يملك من الدنيا إلا راتبه وفى رسائله يعترف بل يفتخر بفقره وبديونه ويحمد الله على الفقر والجدعنة.
ويمكننى أن ألخص شخصية الرجل من خلال هذا الخطاب الذى أرسله إلى صهره وزوج ابنته محمود توفيق ويقول نصه: «منقباد فى ٢٦٥١٩٥١» عزيزى محمود بك.. تحيتى وشوقى وبعد.. فقد تقرر قيامى إلى مصر منقولا مع الكتيبة ويحتمل وصولى يوم ٥٩ ١٩٥١، ولعلى أجد فى وقتك متسعا للتسكع فى شوارع القاهرة وضواحيها للبحث عن سكن مناسب، على ألا يمنعك التسكع من وضع الاعتبارات الآتية فى البال عند البحث: ١- أن تكون بالقرب من السكن مدرسة ابتدائية لسحس «ابنه حسين» ٢- ألا يتجاوز عدد الحجرات ٣ ولا يقل عن ٢، ٣- ألا يزيد الإيجار على ٦ جنيهات إذا أمكن، مع ملاحظة أنى أفضل الزيتون وحلمية الزيتون والمطرية وعين شمس.
وفى بيته البسيط بحلمية الزيتون عاش يوسف صديق نحو ربع قرن.. زاهدا قانعا راضيا بمقادير الله.. تاركا الحكم عليه للتاريخ.