رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القديمة.. تنتظر نسخة «صفقة القرن» الجديدة!


لو استبعدت المعنى الاصطلاحي، الشائع، لـ«القديمة» في تراثنا الشعبي، واعتقدت أنها صفة لـ«صفقة» السلام الأمريكية، المعروفة باسم «صفقة القرن»، فإن كل الشواهد تؤكد أن «الصفقة القديمة» تنتظر الجديدة في «سلة المهملات» أو «صفيحة الزبالة». أما لو اعتمدت المعنى الأول واستبعدت الثاني، فلن نختلف!.
قبل أن تدخل برجلك اليمين، أو الشمال، عليك أن تتعهد أولًا بأن لديك وقتًا تريد تضييعه، وأن قراءتك لهذه السطور لن تشغلك أو تقوم بتعطيلك على أي شيء مفيد أو نافع. إذ إن الكلام عن احتمال ظهور نسخة جديدة أو مُعدّلة من الخطة أو «الصفقة»، يعني أننا نستطيع مقارنتها بالنسخة القديمة، الأصلية أو التي تم تعديلها. ومع عدم وجود الثانية، إلا في الخيال أو في التسريبات المنسوبة إلى مصادر مجهولة، يكون الحديث عن الأولى، أو الاثنتين، الجديدة والقديمة، مضيعة للوقت واستنفادًا للجهد في نقاشات لا «تودّي ولا تجيب»، أو في قولٍ آخر «في كلام فاضي»!.
سبق أن أوضحنا في مقال «صفقة القرن.. قرن المصادر المجهولة»، أن مصطلح أو تعبير «صفقة القرن» ظهر للمرة الأولى على لسان الرئيس عبدالفتاح السيسي، خلال زيارته واشنطن، أبريل قبل الماضي، حين قال لنظيره الأمريكي، دونالد ترامب، «ستجدني داعمًا لكل الجهود التي تهدف إلى إيجاد حل للقضية الفلسطينية، قضية القرن، أو صفقة القرن، اللي أنا متأكد كويس أن فخامة الرئيس (ترامب) يستطيع إنجازها»، فكان أن رد ترامب: «سنفعل ذلك سويًا وستمتد صداقتنا طويلًا وسنحارب الإرهاب سويًا». وترسّخ المصطلح باستخدام الرئيس الفلسطيني له خلال زيارته للبيت الأبيض في الشهر التالي «مايو ٢٠١٧». ثم جرى تداول المصطلح على نطاق أوسع حين كشفت الصحف الأمريكية «سبتمبر الماضي» عن أن «ترامب» بدأ في وضع خطة جديدة لإنهاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، تتخطى كل المبادرات الأمريكية السابقة.
بهذا الشكل، بدأ المجتمع الدولي يترقب إفصاح «ترامب» عما توصف بـ«الصفقة النهائية» أو «صفقة القرن»، التي لم يتم الإعلان رسميًا، إلى الآن، عن أي تفاصيل بشأنها أو أي بنود ستتضمنها. وعلى كثرة التصورات الخزعبلاتية، أو «الهلاوس» غير المنطقية، يمكننا وصف ما تم نشره أو تسريبه من مقترحات ومضامين، بأنه ليس واقعيًا ولا يمكن تطبيقه على الأرض، لأنه ببساطة مرفوض فلسطينيًا وعربيًا. ولن نتوقف عند أي تصورات خزعبلاتية، أو «هلاوس» غير منطقية، مكتفين بتأكيد ما سبق لكل الأطراف المعنية تأكيده، ومصر بالذات، أنه لن يتم قبول أو «فرض» أي تسوية أمريكية على الفلسطينيين «والعرب» لا تشمل حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. وأنه لا يمكن لواشنطن تنفيذ أو «فرض» أي حل مهما كان مضمونه، دون موافقة الجانب الفلسطيني.
مع ذلك، لا يكاد يوم يمر إلا وتحمل لنا وكالات أنباء نقلًا عن صحف إسرائيلية، تفاصيل لم ترد في أي تصريحات أو بيانات رسمية. وطبقًا لما ذكرته وكالة «رويترز»، السبت، فإن ما توصف بـ«صفقة القرن»، تواجه تحديات عديدة تجعلها صعبة التطبيق، لم تذللها الجولة الأخيرة لمبعوثي الرئيس دونالد ترامب إلى المنطقة، جاريد كوشنير صهر الرئيس الأمريكي ومستشاره الخاص، وجيسون جرينبلات، المبعوث الأمريكي لعملية السلام. وسبب ذلك ـ كما أضافت «رويترز» ـ أنه بالتوازي مع مقاطعة السلطة الفلسطينية الإدارة الأمريكية، والرفض العربي الذي قوبل به المبعوثان، تواجه الخطة تجاذبًا داخل إسرائيل يتمثل في خلاف وزاري حاد على أحد بنودها، وهو التنازل عن مستوطنات محيطة بالقدس.
من أين جاءت «رويترز» بهذا الكلام؟!
سؤال منطقي، وردت إجابته غير المنطقية في جريدة «معاريف» الإسرائيلية التي زعمت الجمعة، ونقلت عنها «رويترز»، السبت، أن هناك خلافًا بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والمجلس الوزاري المصغر، الـ«كابينيت»، على تقديم تنازلات متعلقة بإخلاء مستوطنات، لإقناع الجانب الفلسطيني ببدء التفاوض على «صفقة القرن». وذكرت الجريدة الإسرائيلية أن نتنياهو يحاول تقديم تنازلات في المستوطنات غير القانونية شمال القدس المحتلة وشرقها. وبين ما نقلته «رويترز» عن «معاريف» زعمها أن «صفقة القرن» هي خطة ترجع إلى نتنياهو وتدور حول إقامة دولة فلسطينية ناقصة، عاصمتها جزء من مدينة القدس، مع التنازل عن بعض المنـاطق في المدينة، لكن مع سيطرة إسرائيلية.
بالإضافة إلى رفض الـ«كابينيت» المزعوم، كانت جريدة «يسرائيل هيوم» قد ذكرت، الخميس، أن مستوى توقعات كوشنر وجرينبلات انخفض بشأن نجاح «الصفقة»، بعد المشاورات التي أجرياها في المنطقة الأسبوع الماضي. وعن ثلاثة مسئولين أمريكيين وصفتهم بأنهم «على اطلاع بتصريحات للمبعوثين في هذا الصدد»، نقلت الجريدة الإسرائيلية أن سبب «الإحباط» الأمريكي هو الإصرار الفلسطيني على مقاطعة الجولة، إضافة إلى وجود رفض عربي للصفقة في شكلها الحالي. وعن المسئولين الثلاثة، نقلت «يسرائيل هيوم» أن المبعوثين، خلال جولتهما في المنطقة واجها رفضًا من القادة العرب بشأن فرض الصفقة على القيادة الفلسطينية، وأنهما نقلا شعورهما بالإحباط إلى الإدارة الأمريكية، فقررت إجراء تعديلات على الصفقة، ليس فقط من الناحية السياسية، وإنما في الجانب الاقتصادي أيضًا.
على ذكر الجانب الاقتصادي في الصفقة، فقد زعمت تسريبات منسوبة إلى مجهولين، أنه سيجعل غزة نسخة من «سنغافورة»، بتمويل ضخم تتحمله الدول العربية الغنية بمشاركة أمريكية وأوروبية، مقابل قبول الفلسطينيين «الغزاويين تحديدًا» بـ«شبه دولة» فلسطينية منزوعة السلاح، عاصمتها أحد أحياء القدس الإدارية، أو جزء من القدس التاريخية، والتغاضي عن ملفي المستوطنات وعودة اللاجئين. ولا تعنينا تلك الخيالات أو التصورات التي تخاصم الواقع، بقدر ما يعنينا أن غالبية المصادر المجهولة، والمذكورة أسماؤها، أمريكية كانت أو إسرائيلية، أو فلسطينية، تكاد تتفق، باستثناءات مفضوحة، على أن رفض مصر التنازل عن مواقفها الثابتة، هو سبب تعطيل «الصفقة». وبين تلك المصادر من أضاف إلى الرفض المصري، رفضًا سعوديًا، إماراتيًا، وأردنيًا.
ولأنك لن تصدق، مثلي، أي مصادر مجهولة، أو أمريكية أو إسرائيلية، سأنقل لك تصريحات موثقة من قياديين مهمين في حركتي فتح وحماس. أولهما صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي قال إن الرئيس عبدالفتاح السيسي أخبر «كوشنر» و«جرينبلات» برفض «صفقة القرن»، وأن مصر لن تقبل إلا بدولة فلسطينية على حدود ١٩٦٧ عاصمتها «القدس الشرقية»، كما يريد الفلسطينيون. وأضاف لإذاعة «صوت القدس» الفلسطينية أن «هناك إجماعًا عربيًا على رفض الصفقة». والمصدر الثاني هو طاهر النونو، القيادي في حركة «حماس»، والذي حلّ ضيفًا على برنامج «بين السطور»، المذاع على «سبوتنيك» الروسية، وأكد أن الموقف مصري واضح برفض صفقة القرن التي جاء بها كوشنر، إضافة إلى وجود شكل من أشكال الرفض لدى القيادة الأردنية، ووصف تلك المواقف بأنها إيجابية للقضية الفلسطينية. وطالب بتطويرها في إطار جهد عربي فلسطيني مشترك لإجهاض المحاولات الأمريكية.
هنا، تكون الإشارة مهمة إلى أن السلطة الفلسطينية أعلنت، عشرات المرات، رفضها التعامل مع أي مقترحات أمريكية ما لم تتراجع إدارة الرئيس دونالد ترامب عن نقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل. منها مثلًا وصف الرئيس الفلسطيني محمود عباس، «صفقة القرن» بأنها «صفعة القرن»، في كلمته خلال افتتاح الدورة الـ٢٣ للمجلس الوطني الفلسطيني، ٣٠ أبريل الماضي، التي أكد فيها أنه لا سلام دون القدس عاصمة أبدية لدولة فلسطين، وأنه لا دولة في غزة ولا دولة دونها. وكان أبرز ما قاله الرئيس الفلسطيني هو أن هناك من لا يرغب في عقد المجلس الوطني، وأنه كانت هناك محاولات فاشلة «لعقد مجلس موازٍ في غزة وخارج الوطن».
في المقابل، وتأكيدًا لما قاله الرئيس الفلسطيني، كشف تقرير نشره «منتدى الشرق الأوسط»، في ٢٨ أبريل الماضي عن أن «جرينبلات»، تلقى رسالة من إمارة قطر، تحمل الشروط المُفترض أن توافق بموجبها حركة حماس على «الصفقة». ونقل التقرير الذي نشره الموقع الإلكتروني للمركز البحثي الأمريكي، عن مصادر وصفها بأنها «مُطلعة» أن «حماس تنوي تقديم نوع من الانفتاح مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية بموجب معايير صفقة القرن». وتابع المصدر أن «هذه الرسالة مصدرها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني»، وأنه قام بتسليمها إلى «ترامب» عندما التقاه في يناير وأبريل الماضيين.
ضرب الكف بالكف، إذن، هو رد الفعل الأقل تهورًا، على ادعاء الموقع الإلكتروني لجريدة «يسرائيل هيوم»، في ٢٧ يونيو الماضي، بأن مصر والسعودية والإمارات والأردن وافقت على «الصفقة»، وزعمها، زعم الجريدة الإسرائيلية، أن «مسئولين كبارًا من تلك الدول الأربع قاموا بتسليم المسئولين الأمريكيين رسائل تفيد بأن (الدول العربية المعتدلة) لن تمنع الإدارة الأمريكية من تقديم خطة السلام، حتى دون موافقة الرئيس الفلسطيني محمود عباس أو السلطة الفلسطينية». وبلغ الكذب مداه، حين ادعت الجريدة أنها علمت ممن وصفتهم بـ«كبار المسئولين في القاهرة وعمان» أن حوار «كوشنر» مع جريدة «القدس» الفلسطينية، الذي نشرته الأحد قبل الماضي، وانتقد خلاله الرئيس الفلسطيني بشدة، تم بمعرفة وموافقة قادة الدول العربية الذين اجتمع بهم!. أخيرًا، وباستثناء الموقف المصري الثابت، الذي لا يختلف ظاهره عن باطنه، فإن كل «الكلام الفاضي»، الذي حملته التسريبات المنسوبة إلى مجهولين، يؤكد أن «القديمة»، الجزمة القديمة، تنتظر النسخة الجديدة من «صفقة القرن»، قبل أن ترقد، بنسختيها القديمة والجديدة، في سلة المهملات أو «صفيحة الزبالة»، إلى جوار الإخفاقات الأمريكية الكبيرة والكثيرة في السياسة الدولية، وعشرات الصفقات أو المبادرات الشبيهة التي جرى الترويج لها، أمريكيًا، منذ يناير ١٩٨١ أي مع بداية عهد الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريجان. ولولا أن كل تلك الصفقات والمبادرات فشلت بالثُّلث، ما كنا تحدثنا الآن، وتحدث غيرنا، عن مشروع الصفقة الفاشلة الجديدة، أو «صفقة القرن»، التي لا نجد شعارًا يناسبها غير «قرن الغزال»، ذلك السلاح الأبيض، الذي لا يزال هو التسليح المُفضَّل لـ«البلطجية»، لأسباب مجهولة!.