رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"الحرافيش" ما بين الأسطورة والحقيقة

جريدة الدستور

القاهرة ماهي إلا صندوق كبير ملئ بالحكايات، فإذا نطق كل شبر من أرضها سيحكي أسطورة، وهناك العديد ممن وقعوا في غرام بنت المعز وأرادو أن يخلدوا تلك الحكايات وكان ضمن هؤلاء الأديب العالمي نجيب محفوظ الذي عشق حواري القاهرة في رواياته بدءً من "قصر الشوق" مرورًا بـ"السكرية"، وحتى الملحمة الأشهر "الحرافيش".

تقع منطقة الحرافيش بالقرب من قلعة صلاح الدين الأيوبي، فما إن تدخلها تشعر بأن الزمن مر على كل العالم ووقف عندها، فمازالت الرمال تكسوا الأرض والبيوت مبنية بالحجارة، تكاد أن تمد ذراعك من إحدى منافذها لتسلم على جارك، فمازال كل شئ على حاله لدرجة تشعرك بأنك دخلت آلة الزمن وعدت إلى عصر المماليك وحكم محمد على باشا.

الحرافيش بين الحقيقة والخيال
الجميع هنا يحفظ حكايات الحرافيش وعاشور الناجي فالحكايات يرويها الأجداد لأحفادهم ليحفظوا عن ظهر قلب تاريخ المكان الذي يسكنون به، فلم يبق من الحرافيش إلا سيرتهم وحطام بيوتهم، التي لم يحركها أهالي المنطقة من مكانها منذ أكثر من مائة عام لتظل شاهدة على الأحداث، وجلسات السمر الخاصة بالفتوات، ومعارك الفتوة قنصوة مع الطيب عاشور الناجي محبوب أهالي المنطقة وتحفظ الأرض والجدران ملامح الحسنوات التي كن يخفونها تحت "البيشة" وموسيقى رنات الخلاخيل، لذلك كان علينا أن نسأل هل كل هذه الحكايات من وحي خيال نجيب محفوظ، فربما أثر الفيلم على أهالى المنطقة وما يدور هنا مجرد أساطير للأولين؟

يقول محمود شمس الدين، أحد أكبر سكان المنطقة سنًا، يجلس في دكانه الصغير بالقرب من حطام أحد المنازل القديمة، إن تلك الحكايات التى شاهدها الناس في فيلم الحرافيش ماهي إلا 1% من الحكايات التي حكاها له جده، مسترجعًا ذكرياته حول محلات الحرافيش وفرض الفتوة عليهم للإتاوات وتلك البيوت التى شهدت مئات الأحداث.

يُروي العجوز أن الله كتب على سكان هذه المنطقة العزة والذل في آن واحد فقد شهد تاريخ منطقة الحرافيش العديد من وقائع الظلم والاستبداد التي ارتكبها مماليك محمد على في حقهم فقد كانوا ينزلون من القلعة إلى هنا بخيولهم ليلًا ليخيفوا أهالي المكان ويسرقوا الغلال من الدكاكين ويخطفوا الأطفال على ظهور خيولهم ليكونوا ضمن المماليك، ثم مرت هذه الحقبة التاريخية وجاء عصر جديد ظنه أهالي المنطقة خير إلا أنه لم يكن كذلك.

حكايات لم تروِ بعد
بعد مذبحة القلعة التي تخلص فيها محمد على من المماليك بدأت نفوذ ما تبقى منهم فى التلاشي وظلت المنطقة آمنة لفترة كبيرة من الزمن، حتى ظهر عصر جديد من الظلم وهو عصر الفتوات وأصبحت الفتونة مهنة القوي وبدلًا من أن يحمي أهالي المنطقة بعضهم انقسموا إلى قسمين حرافيش وفتوات، حتى ظهر بطل جديد بين صفوف الحرافيش، يكره الظلم وأصبح كل هدفه حماية الضعفاء الذين يدفعون أكثر من نصف قوت يومهم للفتوات.

هل عاشور الناجي كان حقيقيًا أم أنه حبيس صفحات نجيب محفوظ؟
يقول الحاج محمود إن اسم عاشور الناجي هو غالبًا من وحي خيال محفوظ ولم يذكر له جده الاسم الحقيقي للشخص، لكن الحكاية التي جائت في الرواية كانت قريبة جدًا للحقيقة، موضحًا أن أبناء البطل الحقيقي ورثوا منه مبدأ العدالة وظلوا يحمون أهالي المنطقة من بطش الفتوات لفترة زمنية كبيرة إلى أن انتهى زمن الحرافيش والفتوات مع بداية حكم الملك فاروق تقريبًا، وكل ما تبقى من آثارهم هو حطام منازلهم واسم المنطقة فقط.