رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافى يكتب..هويدا فى كأس العالم


ربك بيقطع من هنا ويوصل من هنا، ولا تعبير آخر يلخص ما حدث بعد صافرة حكم مباراة مصر وأوروجواى، فما إن بدأ مفعول الهدف المباغت فى مرمانا ‏يسرى فى عروقى، وما إن بدأتُ أردد كالمجنون «غفلونا ولاد الأبالسة.. غفلونا الكلاب»، حتى سمعت صوت جرس الباب.‏
لم يكن الوقت يسمح باستقبال ضيوف، لكنها أم أحمد التى ما إن فتحتُ الباب حتى أمسكت بيدى وحاولت بكل قوتها أن تقبّلها وأنا أشد فى يدى حتى كادت ‏‏«تنخلع» وأم أحمد تواصل المحاولة وتدعو لى بطولة العمر ورفعة المناصب والترقيات والحصول على أكبر وظيفة فى الدنيا وبسترة البنات.‏
وقبل أن ألمح صبيًا فى سن المراهقة يقف خلفها لمحتُ الكيس الأبيض الكبير على رأسها، ورحبتُ بهما ودخلا الصالة، وأم أحمد ما تكاد تجلس وتضع الكيس ‏بين رجليها حتى تهم لتقف لتضم يدى وتكرر محاولة الباب، وأنا مش فاهم حاجة، حتى مدتْ يدها بالكيس وكشفت عن «كيسين سكر» عليهما خطوط خضراء ‏وحمراء وعلب حلاوة طحينية ومربى. ‏
‏- إيه دول يا أم أحمد؟
‏- البت هويدا طلعت م الحبس بفضل ربنا وفضلك يا أستاذ، هى هتجيلك لحد هنا بس تاخد نفسها. ‏
وراح عقلى يستجمع قصة هويدا وأم أحمد تواصل دعواتها المرتبة ترتيبًا وظيفيًا، بينما الهدف المباغت ومستقبل منتخبنا فى المجموعة بعد الهزيمة يسيطر ‏على تفكيرى، وفضول جارف يدفعنى دفعًا لتصفح الـ«فيسبوك» ربما أجد ما يطمئن. ‏
‏- أنا عارفة إنك عالى المقام بس إنك تكلم الريس بنفسه عشان هويدا.. دى كبيرة قوى عندى. ‏
يا واقعة دقى.. هويدا والريس والحبس!، وزاغت عينى اليمنى وبربشت اليسرى، ثم فنجلتا على اتساعهما وأنا مندهش من جدية أم أحمد التى كانت تملأ البيت ‏بهجة بلهجتها الصعيدية وأسنانها المكسورة، فقمت للمطبخ وفتحت الثلاجة وتصفحت أبوابها ورفوفها والعلب البلاستيك المتناثرة بجوار قرون فلفل وعلبة جبنة، ‏وأخيرًا قزازة حاجة ساقعة كبيرة، وهنا تذكرت هويدا المحبوسة ضمن آلاف الغارمات، فأخذتُ نفسًا عميقًا وقلت فى كبرياء ونفخة تناسب الموقف: دى أقل حاجة ‏يا ست أم أحمد أقدمها للغلابة.. الغلابة دول هم همى الأساسى.‏
والحقيقة أن هويدا كانت تستحق منى اهتمامًا أكبر عندما حكت لى أم أحمد قصتها الدرامية المؤلمة لأخت مصرية جدعة طلب منها شقيقها الوحيد أن تضمنه ‏فى شراء أجهزة كهربائية لتجهيز بناته فلم تتردد فى الوقوف بجانبه، وما هى إلا شهور قليلة حتى مات شقيقها وحدث السيناريو المعروف وتعثرت هى فى السداد ‏فلجأتْ إلى أرملة شقيقها تُعينها على دفع الأقساط، بهدلتها وشتمتها فى الشارع كما قالت أم أحمد فى أول لقاء جمعنى بها منذ عام ونصف العام تقريبًا، فالسيدة أم ‏أحمد من النوع العشرى جدًا، ولم أكن أعلم بالطبع، لذا توقفتُ بسيارتى لآخذها فى طريقى إلى موقف سيارات الشيخ زايد عند هايبر، وخلال دقيقتين تقريبًا كنتُ ‏قد عرفت أنها تعمل فى الفيلا المجاورة وتسكن بالمرج، وأن هويدا، صاحبتها ورفيقة عمرها التى تربت معها قبل أن تتفرق بينهما السبل، محبوسة فى وصولات ‏أمانة ونفسها تخرج عشان خاطر بنتها اللى سايباها عند أهل الخير من ٣ سنين، وبعدها أصبحت أم أحمد واحدة من أهل البيت، وكل مرة تسألنى بضحكة متفائلة ‏لا أعرف مبررًا لها: موضوع هويدا قرب يخلص يا باشا الباشوات؟، وأذكر أننى تعاطفت تعاطفًا لا حدود له وحاولت المساعدة وتوصلت بالفعل إلى مكاتب ‏تسوية المنازعات، وهى جهة تقبل دفع مبلغ الغرامات وترفع طلباتها بالعفو، لكن طول الإجراءات أصابنى بالملل، فضغطت على ضميرى ودفنت القصة مؤقتًا، ‏وفى آخر مرة سألتنى: قربنا يا باشا؟، فقلت بعفوية شديدة: ع العيد ربنا يفرجها يا أم أحمد، ولم أكن أعلم أن كلمتى مسموعة إلى هذا الحد!، فقد جاء الفرج فى ليلة ‏العيد بالفعل، وها هى أم أحمد بشحمها ولحمها دليل على البركة التى أتمتع بها.‏
فتحتُ قزازة الحاجة الساقعة ونطتْ أم أحمد من مكانها: بنفسك يا باشا؟ وفرقعت الصودا فرقعات خفيفة فى الكوب وأم أحمد تهمس وهى تشير للشاب المرافق: ‏ده بقى هيثم ابن اختى وعايزين ندخله كلية الشرطة.. فتوقفتْ لغة الكلام فى فمى وعقلى، وجئت أشكو إليكم أم أحمد.‏