رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: جريمة الخلافة العثمانية فى حق مصر

محمود خليل
محمود خليل

لم يزل كثيرون يعيشون وهم أن الحكم العثمانى يندرج ضمن تجارب «الخلافة الإسلامية»، ليتساوى فى ذلك مع تجربة الخلافتين الأموية والعباسية.

وتقديرى أن هؤلاء ينشغلون بالشكل أكثر مما يعتنون بالمضمون، فتبهرهم فكرة وجود خليفة ومؤسسة اسمها الخلافة حتى ولو كانت مجرد أسماء على غير مسمى.

حقيقة الأمر فإنه منذ فتح مصر على يد عمرو بن العاص فى عهد الخليفة عمر بن الخطاب لم تخسر هذه الدولة كما خسرت فى العصر العثمانى، فقد سعى «العثمانى» التركى إلى تجريف ثروات البلاد بدءًا من البشر وانتهاءً بالحجر، ووصل الأمر حد سرقة بعض الآثار الإسلامية الكائنة فى مصر، تراجعت مصر فى عصر العثمانيين فكريًا وحضاريًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، كما لم تتراجع فى غيره، وبلغ الضجر من حكم إسطنبول مبلغه مع تعدد تجارب ومحاولات الانفصال عنها. وظلت الأوضاع تحت حكم العثمانيين تنتقل من سيئ إلى أسوأ حتى واجه المصريون الحملة التى قادها بونابرت على بلادهم.

مثلت الحملة الفرنسية صدمة حضارية مدهشة للمصريين، شعروا خلال سنواتها الثلاث بمستوى الفشل الذى وصلوا إليه، وهوة التخلف التى يقبعون فيها. قاوم المصريون «الفرنسيين» حتى أخرجوهم من ديارهم، لكن الحملة خلفت فى نفوسهم إحساسًا لا ينمحى بالهزيمة الحضارية، عزاه بعض أفراد النخبة والكثير من أفراد الشعب إلى ضعف دولة الخلافة، وعدم قدرتها على حماية ديار المسلمين، نتيجة عدم تمسكها بالإسلام، وأنها لو كانت مثل الخلافة الراشدة لما طمع الأعداء فى أرضهم وخيرهم. فكرة تعضيد الخلافة كانت الفكرة الأساسية التى دخلت بها مصر العصرين الحديث والمعاصر. الوحيد الذى كان يرى أن الخلافة هى سر فشل الدولة المصرية هو محمد على، فانطلق يقطع عرى ارتباط مصر بالدولة العثمانية، وشرع فى بناء نهضة يعتمد فيها على معطيات مصر وقدرات المصريين، دولة مستقلة لها تجربتها، بما تنطوى عليها من سلبيات وإيجابيات، تجربة اعتمدت على فكرة «الاستقلال بمصر»، ليكون خيرها فى حجر أبنائها، وليس «طُعمة» لدولة الخلافة. السلبية الأساسية فى تجربة محمد على تتمثل فى عجزه عن غرس هذه الفكرة فى نفوس المصريين، حتى يضمن لها الاستمرار من بعده. المشكلة أنه لم يفعل، واعتمد كأى حاكم شرقى فى زمانه على مبدأ أن على الرعية أن تسمع وتطيع.

شهدت تجربة محمد على نوعًا من التراجع الذى أخذ منحناه يزيد من حاكم إلى آخر من حكام الأسرة العلوية، ولم يكن أحد من خلفائه، باستثناء الخديو إسماعيل، على نفس القدرات التى تمتع بها الوالى الكبير، فكانت النتيجة أن أخذت الدولة فى التراجع لتعود إلى مكانها المفضل منذ الفتح العربى!. كان مصطفى كامل الرمز الأكبر لهذه العودة، عندما انبرى يدافع عن حق مصر فى الاستقلال، انطلاقًا من أنها ولاية تابعة للخلافة العثمانية، وأخذ يدافع عن الدولة العلية، ويروج لفكرة «الجامعة الإسلامية»، يدعمه فى ذلك الخديو عباس حلمى. وفكرة الخلافة تلك هى الفكرة الرمزية التى نشأت حولها الجماعات الإسلامية فى مصر وغيرها من بلاد العرب، بما فى ذلك جماعة الإخوان. تمكن هذه الفكرة من مصر والمصريين هو الذى أصاب هذا البلد برجّة وهزّة عنيفة عقب إعلان مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة عام ١٩٢٤، ألغيت الخلافة فى بلد المنشأ لكن المصريين تمسكوا بها، فانطلقوا يبحثون عن حل للمسألة وكادوا يعلنون السلطان فؤاد الأول خليفة لمصر لولا تدخل حزب الوفد ورفضه الأمر.
كان الأزهر الجهة التى تبنت هذا الطرح، والأزهر أيضًا هو الذى أطاح بالشيخ على عبدالرازق خارجه عندما تحدى تبنى الأزهر فكرة «ترسيم خليفة» عقب سقوط الخلافة العثمانية، من خلال كتابه الأشهر: «أصول الحكم فى الإسلام». من حضن الأزهر خرج الشيخ رشيد رضا علينا بكتاب يدافع عن الخلافة الإسلامية، وفى حضن رشيد رضا تعلم حسن البنا، فأنشأ جماعة الإخوان عام ١٩٢٨ وهدفها الأكبر إعادة الخلافة الإخوانية، ولما قامت ثورة يناير أصابت النشوى رأس المرشد الأخير للجماعة محمد بديع فتحدث وهو فى أعلى حالات الطرب عن «قرب استعادة الخلافة وأستاذية العالم»!. وعلى مدار عشرات السنين تربت أجيال تظن أن الخروج من حالة الفشل لا يتطلب أكثر من إتقان الصلاة وإحسان العبادة والانقطاع فى المساجد، والتمحك بالسماء فى كل قول، والحلم بعودة الخلافة على النهج الراشدى.