رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصة الحاكم بأمر الله الذى حرّم خروج نساء مصر من المنازل

محمود خليل
محمود خليل

- منصور بن عبدالعزيز كان يأمر باغتصاب الغشاشين من التجار وادعى الألوهية

تداول على السلطة خلال العصر الفاطمى عدد من الخلفاء- كان أولهم المعز لدين الله الفاطمى وهو أول من دخل ديار مصر منهم وبنيت له القاهرة المعزية، ثم ابنه العزيز، ثم ابنه الحاكم منصور، ثم ابنه الطاهر علىّ، ثم ابنه المستنصر، ثم ابنه المستعلى أحمد، ثم ابنه الآمر منصور، ثم ابنه الظافر إسماعيل، ثم الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبدالله، وهو آخر الخلفاء الفاطميين بمصر. وقد ذاعت شهرة بعض هؤلاء الخلفاء أكثر من غيرهم. وربما كان الخليفة الأشهر فى الحكم الفاطمى هو الحاكم منصور بن العزيز بن المعز لدين الله. وكان لقبه الحاكم بأمر الله. وكان جوهر شهرة «الحاكم» مرتبطًا بسلوكياته المرتبكة المتناقضة فى الكثير من الأحيان.

يرتبط باسم الحاكم بأمر الله العديد من الحكايات العجيبة. من ذلك على سبيل المثال: «فى سنة ٤٠٥ هـ منع الحاكم النساء من الخروج من منازلهن أو أن يطلعن من الأسطحة أو من الطاقات (النوافذ) ومنعهن من الخروج إلى الحمامات، وقتل خلقًا من النساء على مخالفته ذلك، وهدم بعض الحمامات عليهن، وجهّز نساء عجائز كثيرة يستعلمن أحوال النساء لمن يعشقن أو يعشقهن بأسمائهن وأسماء من يتعرض لهن، فمن وجد منهن كذلك أطفأها وأهلكها ثم إنه أكثر من الدوران بنفسه ليلًا ونهارًا فى البلد فى طلب ذلك، وغرّق خلقًا من الرجال والنساء والصبيان ممن يطلع على فسقهم، فضاق الحال، واشتد على النساء وعلى الفساق ذلك ولم يتمكن أحد أن يصل إلى أحد إلا نادرًا». وبغض النظر عن جانب التعسف فى الإجراء الذى اتخذه الحاكم كما يحكيه «ابن كثير» فى المقطع السابق، إلا أنه يكشف من زاوية أخرى عن انتشار حالة من الفساد والعلاقات المشبوهة بين الرجال والنساء، وأن المرأة فى ذلك العصر كانت تمارس حريتها فى الخروج والدخول والذهاب إلى الحمامات والنظر من الشرفات، ما ينفى الأقوال الشائعة التى تذهب إلى أن النساء كن محرومات من ممارسة الحق فى التنقل!.
حكاية أخرى يقصها «ابن كثير» يذكر فيها أن «الحاكم كان يقيم الحسبة (إقامة الدعاوى على المخالفين وعقابهم) بنفسه فكان يدور بنفسه فى الأسواق على حمار له وكان لا يركب إلا حمارًا فمن وجده قد غش فى معيشة الناس أمر عبدًا أسود معه يقال له مسعود أن يفعل به الفاحشة العظمى». والأمر الأشر والأعظم الذى وصم به «ابن كثير» الحاكم بأمر الله تمثل فى «ادعاء الألوهية»!. ولم تنتهِ سلسلة الأوهام والأساطير التى أحاطت بالحاكم بوفاته، إذ ينقل بعض المؤرخين أنه اختفى، وروجت العامة أنه سوف يعود مرة ثانية. وفكرة «الغيبة والرجعة» شيعية بامتياز، وتشير إلى أن الفكر الشيعى كان قد بدأ فى التغلغل فى الوجدان المصرى خلال فترة حكم الخليفة الفاطمى الثالث.
فى المجمل العام يمكن القول إن تناول سيرة «الحاكم بأمر الله» يعد نموذجًا صارخًا على تدخل الهوى السياسى فى كتابة التاريخ، وتحكم المذهب الدينى للمؤلف فى عقله وقلمه أثناء تناول الأحداث التاريخية، والأخطر من ذلك الخلط بين الدين والسياسة بما يترتب عليه وقوع الكاتب فى مأزق الانتقائية وإبراز بعض الأحداث لإثبات وجهة نظر معينة، وروايتها بطريقة تنطوى على قدر كبير من المبالغة التى تشوه ملامح الشخصية التى يتناولها. فى ضوء ذلك يصح لنا القول إن العديد من الاتهامات التى كيلت لـ«الحاكم» فى كتب التاريخ من أنه كان ميالًا إلى الطغيان والتأله وغير ذلك من أمور لا تعكس فى جوهرها سوى نوع من الخلاف المذهبى بين المؤرخ والشخصية التى يتناولها.
ولا نستطيع أن نبرئ المؤرخين من الخلط- فى أحوال- بين سرد وقائع التاريخ، وتلفيق الأحداث وسرد الحكايات المثيرة بغرض تشويه صورة «الحاكم بأمر الله»، مثل تلك الحكاية التى تروى أنه استيقظ من النوم ذات يوم فقرر منع المصريين من «طبخ الملوخية»!. ذلك ما يقصه علينا بعض كتب التاريخ، لكنها تحكى لنا أيضًا ما يدحض أن يكون الرجل بهذا المستوى من التفكير، وتشير إلى أن له الفضل الأول فى إنشاء «دار الحكمة» التى مثلت مركزًا للإشعاع الثقافى، ولم يكتف بالاهتمام بنشر الفكر الشيعى، بل اعتنى بنشر المعرفة بالمذاهب السنية أيضًا، وقد تزاحمت داخل مكتبة «دار الحكمة» أنفس وأبرز كتب التراث الإسلامى، بالإضافة إلى كتب العلوم والفنون والطب والصناعات وغيرها. وقد أسس الحاكم أيضًا دار العلم للمتعلمين. وفتحت فى كل من دار الحكمة ودار العلم مجالس للمناظرة والمحاضرة، يخصص فيها قسم للرجال وقسم للنساء، وكانت المناظرات تنقل أحيانًا إلى قصر الخليفة فيشترك فيها أو يشرف عليها، ويأذن لكل ذى رأى أن يدلى برأيه وإن خالف به إجماع الآراء.