رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد سعيد العشماوى يكتب: كذبة القرآن دستور المسلمين فى السياسة

جريدة الدستور

- القرآن دستور للمسلمين فى الأخلاق لا السياسة والقوانين المعاصرة لا تخالف الشرع
- القرآن لم يستعمل لفظ السياسة لأن شريعة المسلمين ليست سياسة لكنها أمر من الله


للفظ السياسة فى اللغة العربية معنيان، يدقّ الفارق بينهما حتى يغيب عن أغلب الناس من الجهّال والأدعياء والسّذج. لكن بيان المعنيين واضح ومحدّد فى اللغة الإنجليزية. فأول المعنيين يقابله بالإنجليزية لفظ Policy، ويدل على السياسة العامة لشركة أو لهيئة أو لإدارة، فيقال سياسة الشركة هى كذا وكذا، أو السياسة التعليمية لإدارة هى كيت وكيت أو السياسة الاقتصادية لوزارة هى هذا أو ذاك. ويعنى لفظ Policy (أى السياسة) كذلك قواعد أو نظام عقد معينًا مثل بوليصة التأمين Insurance Policy وغيرها.
أما المعنى الثانى للفظ السياسة العربى فيوضحه لفظ Politics الإنجليزى، وهو يدل على النشاط الحكومى أو الحزبى فى ممارسة ومباشرة العمل العام للدولة والأقاليم والمدن.
فى القرآن، لم يرد لفظ السياسة أبدًا، لا بهذا المعنى ولا ذاك، وإنما عبّر القرآن بلفظ «الأمر» عن السياسة العامة للجماعة أو الأمة أو القبيلة، مع وجود لفظ السياسة فى مفردات اللغة العربية، قبل الرسالة المحمدية. وعنه يقول الشاعر (ثعلب):
سادة قادة لكل جميع ساسة الرجال يوم القتال
ويقول الحطيئة (المتوفى سنة ٦٥٠م):
لقد سوّست أمر بنيك حتى تركتهم أدق من الطحين
وروى عن النبى أنه قال (كان بنو إسرائيل يسوسهم أنبياؤهم) أى يتولى أمورهم الأنبياء. ومن معاجم اللغة العربية يستفاد أن لفظ السياسة تصريف من لفظ السْوس، وهو الرياسة. فإذا رأس الناس شخص، قيل إنهم سوّسوه أو ساسوه (لسان العرب، مادة: سوس).
ومع وجود اللفظ فى مفردات اللغة العربية- كما سلف- فإن القرآن لم يلجأ إليه أبدًا، وإنما عبّر عما تعنيه الشئون العامة بلفظ الأمر، (وأمرهم شورى بينهم) سورة الشورى:٣٨ (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر) سورة آل عمران:١٥٩ (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) سورة النساء:٥٩.
إغفال القرآن لفظ السياسة واستعمال لفظ الأمر، لا يمكن أن يكون قد حدث عفوًا أو دون قصد-غير أن سبب ذلك لا يظهر من معاجم اللغة التى لم تُصنّف إلا بعد قرون من عصر التدوين الذى بدأ فى أوائل القرن الثالث الهجرى؛ ولأن هذه المعاجم، فى بيان معنى اللفظ، تركن إلى التطور التاريخى الذى صار عليه (اللفظ) وقت وضع المعجم، ولا تتحرى معنى اللفظ فى عصر التنزيل؛ ولأن معاجم اللغة العربية عمومًا لا تتبع الأصول الجذرية والتطورية لكثير من الألفاظ لتستبين حقيقة معناها ودقيق مفهومها.
مع ذلك لا بد من أن إعراض القرآن عن استعمال لفظ السياسة، كان بسبب أن شريعة الإسلام ليست سياسة، وليست السياسة فيها، لكنها أمر من الله، أو لأن لفظ السياسة يفيد فى الأصل معنى الرياسة، وليست النبوة رياسة بحال، أو لأن اللفظ كان يعنى ما تعنيه السياسة دائمًا من مخالفة الأخلاق ومجانبة المبادئ، متى كان الغرض أو الهدف يقتضى ذلك. ففى السياسة أن الغاية تبرر الوسيلة، وفى الدين أن نبل الوسيلة من نبل الغاية، وأن فضل الغاية من فضل الوسيلة.
عن العرب، قال النبى فى حديث منسوب إليه فى صحيح البخارى (نحن أمة أمية لا تكتب ولا تحسب) والجهلاء بالكتابة والحساب لا يستطيعون وضع الحدود أو رسم الفوارق، فيختلط لديهم الدين بالسياسة، وتضطرب عندهم الشريعة بالإدارة. وقد ظهر ذلك جليًا إبان حكم الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وهو من الفرع الأموى، إذ أخذ عليه بعض المعارضين له أخطاء فى الإدارة وإسرافا فى محاباة أقاربه، وإنفاقًا لمال المسلمين فى غير مصارفه، وهذه كلها أعمال تدخل بالمعنى العام فى باب السياسة، فإن حدث تحديد أكثر تبين أنها أخطاء إدارية. غير أن المعارضين والمؤيدين جميعًا أدخلوها فى ظلمات السياسة ودياجير التحزب، وأسبغوا عليها أوصافًا دينية، فكان المعارضون يقولون إن عثمان لم يحكم بما أنزل الله (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) أى أن عثمان قد كفر ووجب عزله وقتله، مع أن للآية تفسيرًا آخر سبق بيانه (فى دراسة سابقة)، لو فسّرت على أسباب التنزيل. وقد كانوا كذلك يقولون إن الجهاد يكون فى المدينة (أى لحرب الخليفة وعزله أو قتله). وكان المؤيدون للخليفة يقولون إنه خليفة الله لا تجوز مناقشته أو مساءلته، ورفض أحدهم الحج، وقال: إن وجوده بجوار الخليفة للدفاع عنه أفضل من الحج، بينما الحج أحد أركان الإسلام.
بهذا تداخلت فى الفكر الإسلامى أحكام الدين بالسياسة، وتخالطت أحكام الشرع بالحزبية، وصار هذا التداخل والتخالط سمة من سمات التاريخ الإسلامى، استمرأه الخلفاء والأمراء والوزراء ومن دار حولهم، واستيسره المعارضون والمناكفون ومن سار سيرتهم، على مدى التاريخ الإسلامى. فهو من جانب الحكام يجعل المظالم والمفاسد أمرا من الله، قدّره وقضى به من قديم الأزل وسجّله ودونه فى اللوح المحفوظ، وهو من جانب المعارضة داع يبرر لهم إسقاط الدين على أفعالهم وإنزال الشريعة على أى حركة منهم.
وظل الحال كذلك طوال التاريخ الإسلامى حتى عهد السلطان عبدالحميد الثانى سلطان السلطنة العثمانية (١٨٧٦- ١٩٠٩م)، فقد ألغى الدستور الذى كان قد وافق عليه تحت ضغوط الحركات الإصلاحية، وقال هو ومؤيدوه (إن القرآن دستور المسلمين) وأنه مع وجود القرآن لا ينبغى أن يقتبسوا من الغرب أسلوبًا لوضع دستور آخر. وألغى القوانين التى صدرت بناء على هذا الدستور، وقال: لسنا فى حاجة إلى قوانين مأخوذة عن الغرب لأن الشريعة هى قانون المسلمين.
والادعاء الذى جهر به السلطان عبدالحميد الثانى زور وبهتان؛ لأن القرآن لا يتضمن آية واحدة عن الحكم السياسى ولا عن تنظيم وسائله ووضع ضوابطه، بل إن لكلمة الحكم فى القرآن معنى آخر ليس هو الحكم السياسى أو الإدارى، لكنه يعنى القضاء فى الخصومات أو يعنى الرشد والحكمة. كما أنه كان يَقصُد بالشريعة الفقه، وهو غير مُمنهج وغير مقنن، فضلا عن أنه مدارس مختلفة؛ متعارضة وأحيانًا متناقضة.
مع كل هذا، ومع أن السلطان عبدالحميد الثانى عُزل من السلطنة بعد عامين، فإنه زرع فى الفكر الإسلامى ما أنبت نباتًا غير طيب وغير صحيح. ويتأدى فيما يلى:
أولًا: إن القرآن دستور للمسلمين.
ثانيا: إن الشريعة قانونهم.
ثالثا: إن ثمة عداوة أبدية بين المسلمين والغرب، تمنعهم من أن ينقلوا عنه أى شىء، ولو كان نظامًا أصلح وأفيد.
والقرآن دستور للمسلمين فى الأخلاق لا فى السياسة، كما أن القوانين المعاصرة، والمأخوذة عن الغرب، لا تخالف الشريعة فى شىء. والقانون مفصّل ومرتّب فى قوانين بينما الفقه غير مقنن وغير مرتب، وهو مدارس مختلفة، لا يمكن تطبيقها إلا إذا اختار المشرع رأيا فيها.
أما العداوة لغير المسلمين فقد صارت داء نما وكبر واشتد حتى أصبح يمثل خطرا على المسلمين أنفسهم؛ ذلك لأن التعاون والتوافق سمة الحياة، والآيات التى تؤكد العداوة بين المسلمين من جانب والنصارى واليهود من جانب آخر، آيات وقتية إن فسرت تفسيرًا صحيحًا على أسباب تنزيلها.
ومع تشديد المسلمين على أن القرآن ليست فيه آيات وقتية مرهونة بالمكان ومقصورة بالزمان، فإنهم صاروا فى عداء مستمر (يسميه البعض جهادا ويسميه البعض رباطًا) مع غير المسلمين فى كل مكان، رغم أن ذلك ليس من روح الإسلام ولا نصوصه الدائمة. ووقتية الحكام تظهر فى مسائل كثيرة أهمها الرق الذى أوقف العمل به، مع أنه مذكور فى القرآن (والتسرى بالجوارى) أى العبيد مذكور فى ٢٥ آية، وتحرير الرقبة (أى تحرير العبد) بديل عن بعض الكفارات.
إن ما يصدر من الفرد والجماعة والدولة عمل مدنى، ليست له صبغة دينية أبدًا. فللبيع والشراء والزواج والطلاق قواعد بعضها محدد بدقة فى آيات القرآن، لكن عمل الفرد بالبيع والشراء والزواج والطلاق يكون عمله هو، أى أنه عمل مدنى. وحتى إذا غش فيه أو أفسد، فإنه يكون قد خالف المبادئ الأخلاقية العامة، وأفسد ضميره، ويكون جزاؤه عند الله.
فى الغرب سعت الكنيسة عموما إلى أن تتدخل فى الشئون العامة خاصة السياسية منها، من باب أن لها الحق الإلهى فى مراقبة ضمائر الناس، وهو حق مقصور على الذات الإلهية. وأثار هذا التداخل المستمر والذى كان يتصاعد نفوس الناس. وزادت الاستثارة عندما لجأ حكام مثل لويس الرابع عشر إلى رجال الكنيسة لكى يتولوا، معه أو عنه، إدارة الدولة، مثلما كان الأمر مع الكاردينال ريشيليو، إذ كانت صفته الدينية تتخالط مع صفته المدنية، فلم يكن من السهل معارضة الأوامر التى تصدر عنه لاختلاط صفتها بين المدنية والدينية، وبذلك يمكن اتهام المخالف لها بالكفر.
وقد حدث تطور تاريخى مهم أدى إلى حسم الأمر تماما. فقد نشأت طبقة من البرجوازيين، فى مدن تحلّقت حول الأبراج التى كانت تقام بين الإقطاعيات لخدمة المسافرين، وقد سُميت هذه الطبقة المتوسطة بالبرجوازية نسبة إلى لفظ البرج العربى. ومع اشتداد هذه الطبقة فقد عارضت عدم إمكان نقد تصرفات الحاكم التى يَغُمّ وصفها ويعُمّ عليها وصف الدينية، فقصدت إلى فصل السياسة عن الدين، ولكن للظروف التاريخية التى كانت تجعُل السياسة أمرًا مطلقًا فى يد الحاكم، وهو ما دعا حاكمًا مثل لويس الرابع عشر، لأن يقول: الدولة أنا L Etate ce moi فقد وصفوا الفصل بأنه بين الدولة والدين، وسموا اتجاههم العلمانية، التى تعنى أن يكون الحكم لرجال خارج طبقة الكهنوت، من العالم الخارجى، وليس من داخل الكنيسة أو الكهنوت. فالعلمانية إذن نسبة إلى العالم، وليست نسبة إلى العلم. وجماعة الإسلام المستنير تفهم الظروف التاريخية تمامًا، ومن ثم فهى تعمل - فى سبيل الإصلاح الإسلامى- إلى التفرقة بين الدولة والسياسة، فلا يكون من حق الحكام أن يتمسكوا بالدين فى أعمالهم، ولا يكون من حق المعارضين أن يتمسحوا بالدين فى أعمالهم كذلك. وبهذا يقام حد فاصل وفرق واضح، بين الدين والسياسة.