رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معبود الجماهير.. أيام الوعظ والسلطنة «23»

محمد الباز يكتب: كيف نصرَ الله نجيب محفوظ على الشيخ كشك؟

محمد الباز
محمد الباز

- «أديب نوبل»: عدوية المطرب الوحيد الذى حافظ على تميزه منذ وفاة عبدالحليم.. وهو «مغنى الحارة المصرية»
- «الشيخ البذىء» اعتبر أن رواية «أولاد حارتنا» جزء من الحرب على الإسلام وإفساد للأمة الإسلامية


اختلفت الآراء فى أحمد عدوية فضاعت حقيقته.
على طول مسيرة المغنى الشعبى، الذى لم تغادره روحه الطفولية البريئة، ستجد من يمدحه واصلًا به إلى السماء، ومن يذمه مُكسرًا عظامه.
من يرى أنه فتحٌ كبير فى عالم الموسيقى الشعبية، ومن يصوره على أنه ردة على الذوق.
من يرى أنه جاء من قلب الشعب ليعبر عنه، ومن يؤكد أنه يسىء إلى هذا الشعب بما يقدمه كلمة ولحنا وأداءً وأجواءً.
والغريب أن هناك من تَمسَّح فى أحمد عدوية، شاعر العامية الكبير وصعلكوها الأعظم أحمد فؤاد نجم قال عنه: عدوية هو خليفتى فى التسلل إلى روح الشعب المصرى ببساطة وجمال وعبقرية ما يغنيه. وهو رأى يمكن أن يكون صادمًا للبعض، لكنه يتسق تمامًا مع «نجم» وما يمثله على مساحة الروح الشعبية المصرية.
وهناك من ظل يتخوف من أحمد عدوية حتى بعد أن خفّ أثره وبهت تأثيره، وتخيل أن فيلسوفًا كبيرًا مثل الدكتور عاطف العراقى كان يتخوف منه ويعتبره سببًا من أسباب الانهيار الثقافى الذى يمكن أن يضرب مصر، وكان سبب تخوفه هو ذيوع شهرة عدوية فى أعقاب وفاة عبدالحليم حافظ.
وقد يكون من بين ما أفزع عاطف العراقى طريقة تعبير عدوية عن مشاعر الناس، ففى الوقت الذى يغنى فيه عبدالحليم حافظ لحبيبته التى هجرته «بلاش العتاب»، يجد عدوية يغنى لنفس الحبيبة كلمات مثل «الدنيا بعد فراقك غير ما انتى الوحيدة الدوبل كريم والباقى كله جبنة قريش يا تلحقينى يا ما تلحقنيش»، وقد يكون من حق العراقى أن يفزع، لكن كان عليه أن ينزل إلى الشارع أولًا ليعرف أن عدوية لم يكن سببًا فى انهيار ثقافى، ولكنه كان مجرد ترجمة له.
هناك من كان يجتهد فيضيف لأحمد عدوية فضل كل شىء، فرغم أن ما قدمه المطرب الشعبى يعتبر إلى جوار أغانى المهرجانات قصائد عصماء، إلا أن الكاتبة الكبيرة لوتس عبدالكريم ذهبت إلى أن عدوية هو أول من ابتدع أغانى المهرجانات فى مصر، ورغم أنها تضيف إلى سجل عدوية ريادة فنية، إلا أنه سيحزن لو سمع ما قالته، على الأقل من باب أن من سبق لا يمنح شرعية لمن أتى بعده بسهولة أبدًا، ثم أن ما قدمه عدوية بالفعل بالنسبة لما يقدمه نجوم المهرجانات، مثل ما قدمه محمد عبدالوهاب بالنسبة لما أنجزه عدوية.
و لن يكون غريبًا إذا قلت لك إن أديبنا الكبير نجيب محفوظ كان واحدًا ممن تحمسوا لأحمد عدوية وبشروا ودافعوا عنه، ولم يتردد عن فعل ذلك فى جلساته الخاصة وحواراته العلنية المنشورة فى الصحف أو المذاعة فى الإذاعة والتليفزيون، ثم، وهذا هو الأهم، لم يتراجع أبدًا عن رأيه هذا، لأنه كان معجبًا بشكل حقيقى بأحمد عدوية.
فى الذكرى العاشرة لحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل ١٩٩٨، أصدر رجاء النقاش كتابه «نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته»، وهو الكتاب الذى عكف عليه رجاء ما يقرب من ٧ سنوات، ما بين تسجيلات ومراجعات مع نجيب، خرج منها بما يمكن اعتباره الجزء الأكبر من سيرة الأديب الكبير الذاتية.
أهمية كتاب رجاء عن نجيب محفوظ ليس فى أنه جزء من سيرته الذاتية، ولكن لأنه كشف جانبًا من آرائه كانت صادمة للبعض، والأكثر منها لم يكن معروفًا لقرائه من الأساس.
فى هذا الكتاب تحدث نجيب عن عدوية، قال نصًا: المطرب الوحيد الذى استطاع الحفاظ على تميزه وسط هذا الطوفان الغنائى منذ وفاة عبدالحليم حافظ، وحتى الآن هو أحمد عدوية، وعدوية فى رأيى صاحب صوت قوى ومؤثر وله أسلوبه الشعبى المميز، وأغانيه الكاريكاتيرية الظريفة لا يجاريه فيها أحد.
الكلام نفسه والإجابة نفسها قالها نجيب محفوظ لمفيد فوزى، كان مفيد يسأله: تدى ودنك لمين يا أستاذ نجيب؟، فرد الأستاذ: لأحمد عدوية.
وقبل أن يتعجب مفيد فوزى من رد نجيب، لاحقه الروائى الكبير قائلًا: عدوية هو مطرب الحارة المصرية.
كان هذا هو نفس ما قاله نجيب أيضًا فى برنامج «عصر من الفن» الذى كان يذيعه التليفزيون المصرى، كان يتحدث عن أم كلثوم، وفجأة قال إن حمد عدوية هو مغنى الحارة.
هذه المرة كان رد الفعل عنيفًا إلى حد كبير، لم يسلم نجيب من كتابات ناقدة، وأقلام عاتبة، فأديب كبير مثله عندما ينحاز بهذه الطريقة إلى مطرب شعبى يتهمه كثيرون بإفساد ذائقة المصريين، فيه تجنٍ من الأديب على الفن كله، خاصة أن نجيب كان ابن رواد الطرب المصرى، وواحدًا من السميعة العظام فى تاريخنا الثقافى والفنى.
وجد نجيب من يشرح وجهة نظره، كان صديقه الفنان التشكيلى الكبير صلاح طاهر الذى قال: محفوظ يجامل عدوية باعتباره ابن مسرح رواياته الداعمة للحارة الشعبية.
يمكن أن نقبل هذا التفسير إذًا كنا ننظر إلى الأمور نظرة سطحية، فنجيب ولأن الحارة المصرية هى ملعبه الأساسى وموطن شخصياته، فمن الطبيعى أن ينحاز لعدوية لأنه قادم من الحارة، ابن وفى من أبناء مقاهيها، وقد يكون نجيب جلس معه أو من هم مثله، ولذلك فهو يعرف ما الذى يريده وما الذى يحتاجه أيضًا.
لن تتعجب بعد ذلك عندما تعرف أن عدوية كان صديقًا لنجيب محفوظ، يتحدث المغنى عن الروائى، يقول: هذا الرجل كان حبيب قلبى، وكان دائم الثناء على صوتى، وقال عنى إنى صوت قوى ملىء بالشجن.
قال عدوية، ما أكد لى أن رأى محفوظ كان حقيقيًا وليس مجاملة عابرة من بين مجاملاته الكثيرة، إنه حضر احتفالًا بعيد ميلاد محفوظ، وكان مفيد فوزى موجودًا وشاهدًا، ويومها طلب منه نجيب أن يغنى له أغنية «شدوا الكراسى»، وبعد أن أنهى الغناء صفق له وأثنى عليه بشدة.
إذن كان نجيب يعرف عدوية جيدًا، يعرف أغانيه، ويضع يديه على أهمها وأعمقها، «فشدوا الكراسى» هى أغنية «المراسى» التى كتبها حسن أبوعتمان، وتقول كلماتها: يا مراسى راسى من غير مراسى والقسوة مرة والمر قاسى وجينا نبعد قالولنا نبقد وجينا نقعد شدوا الكراسى الحوجة مرة وبيحوجونا واحنا التقونا لما احتجونا، تعبنا والله وغلبنا والله، ده حبيبنا ولا عزول وقاسى ده زى ما يكون فرح وجينا من غير ما صاحبه يكون داعينا نسرح نروح وجينا نفرح ما لقينا مطرح ولا كراسى يا عينى آدى احنا روحنا انجرحنا يا ريت ما جينا ويا ريت ما رُحنا غلبت أكلم غلبت أعلم فى المتعلم يصبح ناسى.
تقاطع نجيب محفوظ مع عدوية كان مختلفًا تمامًا عن تقاطعه مع الشيخ كشك.
كان يمكن لنجيب أن يجعل كشك واحدًا من شخصيات رواياته الكثيرة، لكنه فيما يبدو لم يلتفت إليه، لأنه كان يعرف حجمه جيدًا، وأغلب الظن أن نجيب كان يتعامل مع كشك على أنه شخصية سطحية جدًا، لا أبعاد لها، ولذلك تركه فى حاله تمامًا.
مرة واحدة عابرة وجدت نجيب محفوظ فى خطب الشيخ كشك، وهى مرة مهينة فى حقيقة الأمر، وهى إهانة تنم عن جهل الواعظ إن لم تكن جاهليته.
يقول كشك فى واحدة من خطبه: يتحدث كاتب اسمه نجيب محفوظ، ذلك الشىء الذى يسمى نجيب محفوظ تسأله بعض الفتيات عن صداقة الولد والبنت، فيقول لهن، إنه لا يمانع أن تكون هناك صداقة بين الولد والبنت، وبعدما راجعته إحدى الفتيات قائلة: وإن كان هذا بغير علم الأهل؟، فيقول لها نجيب: حتى لو كان بغير علم الأهل.
يصمت كشك قليلًا ثم يستعدى علماء الأزهر على نجيب محفوظ باعتباره داعية للفجور، لكن كل ما قاله كشك عن نجيب فى خطبه، لا يساوى شيئًا أمام ما فعله بعد فوزه بجائزة نوبل.
نحن نتحدث فى العام ١٩٨٨، كشك لا يصعد منبره منذ خروجه من السجن فى العام ١٩٨٢ بأوامر من وزارة الأوقاف، حاول أن يوسط كثيرين من معارفه، حاول جمهوره أن يضغط، بل إن بعض أحزاب المعارضة، وعلى رأسها حزب الأحرار، رفعت دعوى قضائية تطالب بمقتضاها أن يعود كشك إلى منبره فى مسجد «عين الحياة»، لكنه لم يتوقف عن قطع الطريق على عباد الله، ولا «إلقاء بلاه عليهم».
هذه المرة لم يسب كشك نجيب محفوظ أو يلعنه، ألف كتابًا كفره به.
أحدثكم عن كتاب «كلمتنا فى الرد على أولاد حارتنا».
عرفت هذا الكتاب مبكرًا جدًا، لكننى لم أحرص على اقتنائه، شعرت أن هناك حاجزًا نفسيًا بينى وبينه، هذا من ناحية، لكن الأهم أنه بالفعل كتاب مبتذل جدًا، فغلافه كان مهينًا جدًا لنجيب، حيث يقف الشيخ كشك كمدرس عملاق أمام نجيب التلميذ القزم، يمسك الشيخ بعصا غليظة ويشير للتلميذ أن يمد يده كى يضربه، فى إشارة إلى أن كشك يؤدب نجيب.
لم يكن الغلاف مهينًا فقط ولكنه كان مقززًا، وأعتقد أن من صمتوا على هذا الغلاف أيقنوا أن الكتاب لا بد أن يذهب وبسرعة إلى مزبلة التاريخ، فما كتبه كشك كان هراءً تامًا، ولا يمكن أن يقف هذا الهراء أمام عمل عظيم مثل أولاد حارتنا.
الأزمة التى أوقع كشك نفسه فيها أنه دخل مكانًا لا يعرف فيه أحدًا، فـ«أولاد حارتنا» رواية، عمل أدبى يُعيد فيه نجيب محفوظ كتابة التاريخ الدينى للبشرية، يستلهم فيه قصص الأنبياء الكبار، يقول من خلال حكاياتهم ما يؤمن به من قيم العلم والعدالة الاجتماعية، دون أن يقترب من قضية الدين، وحتى عندما جعل الدين فى مواجهة العلم، وانحاز إلى أن العلم سينتصر فى النهاية، لم يكن بذلك ينفى الله أو الرسل، لكن كشك وبعقل ضيق، وبأفق أضيق، حمل على نجيب وروايته، وتعامل معه على أنه ملحد تمامًا، ولا بد من عقابه على ما فعله.
كتاب كشك عن نجيب محفوظ مغمور تمامًا، تقريبًا لا أحد يعرفه، وتقريبًا لا أحد قرأه من المهتمين بالأدب، دراويشه هم الذين انتبهوا له، ثم تركوه، لأن الشيخ ببساطة كرر ما كان يقوله فى كل خطبه عن معركة الإسلام الكبرى مع الكون كله، ولم يكن فيه جديد على الإطلاق.
لكن لا مانع بالطبع من باب التوثيق أن نشير إلى بعض ما جاء فى كتاب كشك.
يبدأ كشك كتابه بالتأكيد على أن رواية «أولاد حارتنا» جزء من الحرب التى سيظل الإسلام فيها مع أعداء الحق وأشرار الخلق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو ما جعله يتعامل مع الرواية ليس كعمل أدبى ولكن كمؤامرة متكاملة على الإسلام، رغم أن القراءة الدينية للرواية هى أكثر القراءات انحطاطًا حتى الآن، وكل من يحاول أن يتعمق فى هذه القراءة، يعود إلينا سريعًا بحكم تكفير نجيب محفوظ ووصمه بالإلحاد وإنكار الله والإساءة إلى كل الأنبياء.
فالرواية بالنسبة للداعية الدعى تمس المقدسات الإسلامية، وإن كاتبها نجيب محفوظ جعل من الشيوعية الماركسية والاشتراكية العلمية بديلًا للدين وللألوهية، وكان طبيعيًا أن يطعن فيما منحوا نجيب محفوظ جائرة نوبل فيقول إن لديهم حقدًا دفينًا على الإسلام، ولذلك تحركت عقارب البغضاء وزحفت ثعابين الحقد فى الصدور.
ألم أقل لكم، كان الكتاب على طوله وعرضه يسير على هذه الشاكلة الإنشائية السمجة، لكن الأكثر عجبًا أن جهل كشك وجاهليته يقوده إلى التأكيد فى هذا الكتاب على أن بداية إفساد الأمة الإسلامية كانت فى عصر محمد على، وتحديدًا من التعليم الذى يعتبره- وتخيلوا هذه الصورة المفزعة- سلاح الغزو الفكرى الصليبى، الذى وصل فى النهاية إلى المسرح والسينما والتليفزيون، وربما يكون هذا ما جعل كشك يشن حربًا على كل أشكال الفنون، اعتقادًا منه أنه بذلك ينقذ الإسلام، رغم أن ما جرى يقول لنا إنه لم يكن سوى جملة عابرة فقط، فقد تبدد تراثه، وبقى تراث المسرح والسينما والتليفزيون.
هل تعرفون بأى شىء نصح كشك نجيب محفوظ فى كتابه؟
بعد أن رتب شخصيات الرواية، ووضع لكل شخصية ما يرى أنها تمثله فى الواقع الدينى، فيرى أن الجبلاوى هو الله، وأدهم هو آدم، وجبل هو موسى، ورفاعة هو النبى عيسى، وقاسم هو النبى محمد، وعرفة هو الشيوعى الملحد الذى ينكر وجود الله، وبعد أن حدد موقفه من نجيب بأن نزع القداسة عن الأنبياء موسى وعيسى ومحمد وقد تم تمثيلهم تحت ستار رقيق باعتبارهم لا يزيدون عن كونهم مصلحين اجتماعيين ناضلوا بأقصى جهدهم لتحرير شعوبهم من الطغيان والاستغلال.
حتى الآن لا نصيحة، ولكن اتهام بالكفر والإلحاد والإساءة، النصيحة كانت، وتخيلوا منطق كشك، طلبه من نجيب محفوظ أن يقرأ سورة النحل.
لم يتوقف كشك عند النصيحة، بل نشر تفسيرًا لسورة النحل حتى يقرؤه نجيب، ربما اعتقادًا منه أن الروائى الكبير يمكن أن يقرأ كتابًا لكشك أو يهتم به من الأساس، لقد تعامل الواعظ مع الروائى على أنه كافر وهو نبى يدعوه إلى الإيمان بالله، فحشد له كل الأدلة المادية التى تثبت وجود الله، بل استعان بما كتبه ونشره العقاد ردًا على المستشرقين الذين يشككون فى الله والأديان فقط حتى يقول إن الله موجود.
لا أنكر أنه كانت لكشك معارك كثيرة، وبعضها حاد جدًا، لكن معركته مع نجيب محفوظ كانت تافهة جدًا، ربما لأنه دخلها بسلاح الكلمة المكتوبة، وهو سلاح لم يكن يجيده بدرجة كافية، فعندما تقرأ كتب كشك تكتشف أنك أمام ناقل فقط للنصوص من الكتب القديمة، لا يوجد فيها ما يدل على أننا أمام كاتب أو مفكر أو صاحب وجهة نظر، وربما لو كان دخل المعركة ضد نجيب محفوظ من على منبره، لكان لها صدى أكبر.
لو عاد بنا الزمن وسألنا كشك عما فعله فى نجيب محفوظ، وأنه بما كتبه عنه أحل دمه، وجعله مباحًا، سينفى تمامًا أنه يكفر محفوظ أو يتهمه بالإلحاد، وهى صيغة يلجأ إليها المكفرون، الذين يشربون من دماء خصومهم باسم الدين دون أن يعتقدوا أنهم يغضبون الله بما يفعلون.
هل تريدون الصدق؟
لقد أشفقت على الشيخ كشك وأنا أقرأ بعض فصول كتابه عن نجيب محفوظ، شعرت بين سطوره أننى أمام رجل مهزوم، اكتشف بعد كل هذه السنوات أنه يحارب فى الهواء، فلا نتيجة لما فعله، ولا حصاد لما زرعه، ورغم أن هذا كان طبيعيًا جدًا، فهو لم يزرع إلا الباطل، لكنه من وجهة نظره كان يتعامل مع نفسه على أنه أحد رسل الله، الذى يبلغ عنه، كان يرى نفسه واحدًا من جند الله فى الدعوة، رغم أن ما فعله كان أكبر جناية على الدعوة.
هل تريدون الصدق أكثر؟
لقد كشف هذا الكتاب مدى الخذلان الذى كان يعيش فيه كشك فى سنواته الأخيرة، مات بعد هذا الكتاب بثمانى سنوات، وأعتقد أن اللعنة التى أصابت كل من اقترب من نجيب أصابته هو الآخر، فكأنى بالكاتب الذى اتهموه بالكفر والإلحاد هو الولى، الذى منحه الله من روحه خلودًا، أما الذين حاولوا اغتياله معنويًا قبل أن يحاولوا اغتياله ماديا فأصبحوا لا شىء، لا شىء على الإطلاق.
كان طبيعيًا بعد كل ذلك أن تتباين نهاية كشك ومحفوظ.
محفوظ مات مكرمًا لا يزال الناس يبحثون عنه ويقرأون له ويحاولون تكريمه، وكل يوم نكتشف سرًا من أسراره.
وكشك مات مجهولًا، لا يعرفه إلا من بقى من جمهور حنجرته العالية العشوائية، تبددت كتبه- هذا إذا تعاملنا معها على أنها كتب- ولم يعد أحد يهتم به إلا من باب أنه كان داعية الإفيهات الكبير، الذى يمكن أن تبحث عنه لتضحك لا لتتعلم.