رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ناصر كشك.. "أمير الشريحة" يحارب "الميكروجيب" ويدعو للحجاب فى السجن

جريدة الدستور

فى عام ١٩٩٥ أدخلونا إلى سجن الفيوم، وفى الطرقات الفاصلة ما بين العنابر أوقفونا صفوفًا ليتم تقسيمنا على الغرف. مأمور السجن العميد أحمد شندى كان يُشرف بنفسه على عمليات التقسيم والتسكين، وبعد أن وقعت فى غرفة ١٠ عنبر ٨، فوجئت بأن أحد الموجودين وهو ناصر سيد يجرى إلى المأمور ويستجديه أن يقوم بتسكينه فى غرفتى، ولأن المأمور كان يعرفه لأنه كان يعمل بمحافظة المنيا فقد استجاب له.

فجأة رآنى أحمد شندى، وكان يعرفنى جيدًا، فأمر الجنود أن يهتموا بى، وسمح أن أكون أنا وبلدياتى معًا بغرفة واحدة.
ناصر كان يلقب بـ(ناصر كشك) فهو يخطب مثله تمامًا، ويتقمص شخصية كشك، ويخطب كما كان يخطب، حتى إنه كان يعيد تلك الخطب على المنبر، رغم تغير الواقع والظروف المحيطة تمامًا.
أذكر أنه ونحن فى الزنزانة خطب الجمعة على (الميكروجيب) والتبرج، ووجوب الحجاب، وكنا نضحك على ما يقال وما يُذكر، فنحن لا حريم كى نلبس الحجاب، ولا نحن نرى أمامنا الميكروجيب، بل نصبح كل يوم فقط بشاويش العنبر!
ناصر كان ناقمًا على كل شىء، لا تعجبه الجماعة ولا أفعالها، لكنه كان فى السر ينافق قياداتها وينفذ كل ما يطلبونه منه، بل وكان يبدى لهم أنه الأشد تمسكًا بتعاليمهم وأوامرهم، لذا فقد عينوه أميرًا للغرفة التى كنا فيها، ومنذ أن أصبح مسئولًا داخل الجماعة بدا بوجه جديد أشد تطرفًا وتشددًا، على غير الواقع الذى كان يبديه لنا همسًا فى منتصف الليل.
أمروه أن يعين مسئولًا للرباط والسهر حتى صلاة الفجر فنفذ ذلك، وأمروه أن يصبح الأكل جماعيًا وليس فرديًا فاستجاب، وأمروه أن يعزل (الشريحة) أى صغار السن فى زنازين خاصة ففعل ذلك.
كانت الجماعة داخل السجون فى هذه الفترة تسيطر على أفرادها سيطرة تامة، وتحوطهم بسياج من الحرص الزائد تحت مزاعم الحفاظ عليهم من أفكار الجهاديين والتكفيريين، وتحت مزاعم خطورة الوضع فى الأماكن المغلقة، وعدم إعطائهم أى فرصة للتعبير عن ذواتهم وتوجهاتهم، واعتبارهم أطفالًا يتحركون بين العصا والجزرة، ما جعل هؤلاء الشباب طفوليين فى حركاتهم فى هذه الحياة غير الطبيعية، ورغم سهولة التخلص من هذه الأمور، إلا أن التكوين الفكرى الذى كون العقلية التى تؤمن بطاعة الأمير والسمع والطاعة هو الذى جعلهم لا ينخلعون منها، وجعل الأمراء يراقبون رسائلهم ويسمونها رسائل الغرام.
أذكر أن أحدهم من محافظة سوهاج رأيته يلبس سترتين فى عز الحر من قماش الكتان السميك ويلبس بنطلونين فسألته فقال لى:
الأخ المسئول هو الذى نبه علينا بذلك.
قلت:
زنزانة الشريحة كان أقلها عمرًا يزيد على سبعة عشر عامًا، وكان هؤلاء يفرحون ويعتبرون هذا اهتمامًا من الجماعة بهم، وكان ناصر يمدحهم لسمعهم وطاعتهم وتنفيذهم الأوامر، ويقول الأخ فلان شجاع لأنه ضرب فلانًا من أجل أمير الزنزانة، ومن أجل الشيخ فلان، واستطاع نشر هذه المؤثرات.
لقد أخرجوا بابًا من الفقه يسمى سد الذرائع وجعلوا لأى شاب صغير السن مكانًا محددًا للنوم بجوار أخ أمير أو متزوج بل فرضوا عليه أن يخيط غطاءه كشوال أو عباءة ليدخل فيها ساعة النوم، وكذلك ألا يقعد ساعة الطعام بجوار من هو فى نفس سنه.
مع تحسن الأحوال فى السجون انتهى هذا الأمر تمامًا، وتم إلغاء هذه الغرف، وأصبح ناصر لا قيمة له.
كان كثيرًا حين يشعر باليأس يجلس بجوارى ويسألنى، فأقول له أقسم لك أن هذا الباب لن يُفتح، إلا إذا تابوا عن الدم، وأنكروا ما يفعلونه من تلك العمليات، التى يطلقون عليها جهادية.
مرت الأيام سراعًا، وفجأة أفرج عن ناصر وبقينا نحن نعانى كدرة العيش، وألم السجن، وغابت عنا أخباره وانقطعت، لقد أفرجوا عنه قبل مبادرة وقف العنف، وبعدها بسنوات تقابلنا، فوجدته ناقمًا غاضبًا منتقدًا تصرفات الجماعة وأفعالها.
أسس ناصر جمعية خيرية فى أحد مساجد المدينة، وكان يقوم بتوزيع التبرعات على الفقراء، وكان يرى أن العمل الاجتماعى هو الطريق الأمثل والصحيح للتدين.
فى حوار بيننا كان يرى أن ما يفعله كان الوسيلة الوحيدة للتعايش والحياة مع هؤلاء، الذين لا يفهمون، وكان يقول لى: لا شريحة ولا فضيحة، هؤلاء لا يفهمون.