رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد سعيد العشماوى يكتب: الدين والشريعة

جريدة الدستور

لم يكن للدين، فى مصر القديمة، ولا فى أغلب الحضارات، ولا فى أكثر المعتقدات، لفظ له يطلق عليه؛ ذلك أنه- فى الواقع والحقيقة- أسلوب حياة ومنهاج تصرف.
وعند المصريين القدماء كان رمز الحياة «عنخ»، يعنى بالدائرة العليا «أو شبه الدائرة» الله جل جلاله، أو اللا نهاية التى ترتبط بخط مستقيم، يعنى الإنسان المستقيم، وتمتد بالخط المستعرض من الجانبين إلى الإنسانية جمعاء. بهذا كان الرمز معبّرًا عن الألوهية وعن اتصال الإنسان بها من خلال الاستقامة، على أن ينتشر منها إلى الإنسانية كلها، «التى كان يعبّر عنها بكلمة (ماعت) التى تعنى الحق والعدل والاستقامة».

لكن لفظ الدين ورد فى القرآن، وهو لفظ يعنى- فى معاجم اللغة العربية- الخضوع والاعتراف، كما يعنى الإسلام. «يراجع فى ذلك، على سبيل المثال، (المعجم العربى الأساسى) مادة: دين».
وجاء فى القرآن «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ» سورة آل عمران: ١٩، وفيه «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» سورة آل عمران: ٨٥. غير أن الإسلام، فى مفردات القرآن، لا يتخصص بما دعا إليه محمد «صلى الله عليه وسلم»، وإنما يعنى الدين عامة، كما بشّر به الأنبياء جميعًا. إذ جاء فى القرآن على لسان نوح «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» سورة يونس: ٧٦، وهو الدين الذى كان عليه إبراهيم «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا» سورة آل عمران:٦٧، «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ» سورة آل عمران: ٦٧، وهو دين بنى إسرائيل، إذ جاء فى القرآن «قَالُوا نَعْبُد إلَهك وَإِلَه آبَائك إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق إلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» سورة البقرة: ١٣٣، وهو الدين الذى بشّر به السيد المسيح «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» سورة آل عمران:٥٢، وهو الدين الذى دعا إليه محمد «صلى الله عليه وسلم»، «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» سورة الشورى:١٣، «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» سورة آل عمران:٨٤.
أما دعوة محمد «صلى الله عليه وسلم» فهى تسمى فى القرآن: الإيمان؛ وقد ورد هذا التوصيف فى آيات من القرآن الكريم: «وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» سورة المائدة:٥٥، «وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ» سورة البقرة: ١٠٨.
وكان ثمة تبادل بين لفظى الإسلام وحنيف، على اعتبار أنهما أو أيهما يدل على دين إبراهيم، وربما كان ذلك هو السبب فى أن ترد- فى مصحف عبدالله بن مسعود- آية «إن الدين عند الله الحنيفية» بدلًا من آية «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ»، إضافة إلى ذلك فقد كان لفظ الإسلام معروفًا مشهورًا قبل بدء الرسالة المحمدية، فقد جاء فى شعر لزيد بن عمرو بن نفيل «ابن عم عمر بن الخطاب»، وكان من الحنيفية التى كان منها كذلك عبدالمطلب جد النبى وآخرون:
أسلمت وجهى لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا
وأسلمت وجهى لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا
ما هو الإسلام الذى دعا إليه محمد «صلى الله عليه وسلم» بدعوة أطْلق عليها القرآن اسم «الإيمانْ»؟. إنه يوجز فيما قاله النبى لإعرابى «عبد الله بن الثقفى»، عندما سأله أن يقول له عن الإسلام ما لا يسأل أحد عنه بعد، فأجابه النبى «قل آمنت بالله ثم استقم». وقد جاء ذلك فى القرآن «فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ» سورة الشورى:١٥.
«أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ» سورة فصلت:٦، «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» سورة الاحقاف:١٣، «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ» سورة فصلت:٣٠.
ولقد كان خطاب القرآن فى الفترة المكية يُوجّه على الغالب إلى «الناس»، لا بصفة عامة تشمل كل الناس فى كل مكان وأى زمان، ولكن بصفة خاصة تعنى أهل مكة بالذات؛ ذلك أنه قد كانت لمكة أسماء عدّة منها بكة ومنْها الناسة، والذى ينسب للناسة يكونون هم الناس، وهم أهل مكة، فى وقت الخطاب. أما الخطاب القرآنى بعد الهجرة، وفى الفترة المدينّية، فقد كان «للمؤمنين» وهم أمة محمد من الذين آمنوا به وبما أُنزل عليه «وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» سورة النساء:١٦٢، «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» سورة التوبة: ١٢٢، «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» سورة الحجرات: ١٥.
ولم يأتِ فى القرآن أبدًا خطاب لأمة محمد يقول «يا أيها المسلمون» أو «يا أيها الذين أسلموا».
هذا هو الدين، والإسلام والإيمان، فما الشريعة؟
الشريعة لغة، تعنى مورد الماء أو سبيل المياه، أو الطريق أو المنهاج. وقد ورد اللفظ فى شعر فترة ما قبل الإسلام، المسماة بالعصر الجاهلى «والطعن منى فى الوغى شريعة»، ثم جاء بنصه فى القرآن مرتين، وبتصريفه «شرع» مرة واحدة، و«شرعوا» مرة واحدة كذلك. والآية «ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْر» سورة الجاثية:١٨، تعنى ثم جعلناك على منهاج من الدين أو على طريق له، والآية «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» سورة المائدة:٤٨، تعنى أن الله جعل لكل نبى طريقًا ومنهاجًا، أو أنه جعل لكل مدخل «موردًا» ومنهاجًا.
فدعوة محمد «صلى الله عليه وسلم» المسماة فى القرآن «إيمان» هى- كدين- ذات ما دعا إليه كل الرسل والأنبياء والمعلمين، الإيمان بالله والاستقامة. أما شريعته وشريعة كل رسول أو نبى أو معلم آخر، فهى بيان ما هو الإيمان، وكيف تكون الاستقامة، للعامة فى عصره، وذلك على قدر عقولهم، وبضرب الأمثال لهم؛ لأنهم لا يستوعبون ما وراء ذلك، وإنما يعرفه الخاصة وحدهم.
خلاصة ذلك، أن الدين واحد والشرائع شتى.
فالدين، وهو الإيمان بالله والاستقامة، هو ما بشّر به ودعا إليه كل من إدريس «إذريس، أوزير المصرى» ثم نوح وإبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى ومحمد. أما الشريعة فهى ما كان خاصًا بكل واحد منهم، يبين للعامة من الناس، غير العلماء، ومن سوى العارفين، كيف يكون الإيمان وكيف تكون الاستقامة، بما يناسب المصر وما يوافق العصر.