رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معبود الجماهير.. أيام الوعظ والسلطنة «19»

محمد الباز يكتب: جوبلز الإخوان.. افتراءات كشك على جمال عبدالناصر

محمد الباز
محمد الباز

- ادعى أن الزعيم استهدف القضاء على الإسلام وتثبيت مكانة إسرائيل فى المنطقة
- كشك قال إن النساء كُنّ يُجلدن ويعذبن ويعلقن من أرجلهن فى «سجون ناصر»
- زعم أن ناصر كان يأمر باعتقال من يقول «لا إله إلا الله» جهرًا
- السادات ترك كشك يهاجم عبدالناصر لأنه أراد أن يبنى لنفسه شرعية جديدة


من الظلم البين أن نحمل الرئيس السادات وحده مسئولية صعود نجمى كشك وعدوية، صحيح أنهما تألقا فى عهده وكانا انعكاسا واضحا له، إلا أن البذرة التى نمت لتخرج ثمرا شهيا أو مرا، وضعت أيام عبدالناصر، فلا أقل من أن يتحمل جزءا من المسئولية وربما الهجوم، لأن سياساته وبعضا من إخفاقاته كانا سببا فى أن يحتل الواعظ والمغنى كل هذه المساحة من تاريخنا.
فى كتابها «الغناء والسياسة فى تاريخ مصر»، تذهب ياسمين فراج إلى أن هناك تجربة أفرزتها هزيمة ٦٧، وكانت سببا فى نجاحها، هى تجربة المغنى الشعبى أحمد عدوية، الذى بدأ مشواره الفنى بكلمات وألحان الريس بيرة، أحد رواد شارع محمد على، وهذه التجربة كانت تعبر عن الجانب العبثى خلال تلك الفترة.
تدخل ياسمين إلى قلب تجربة عدوية، تقول عنها: اعتمدت تجربة عدوية على كلمات كان وقعها السمعى جديدا وغريبا وخفيفا، يدعو للمرح، وإن كانت كلماتها غامضة المعانى على شريحة من الشعب مثل «السح الدح إمبو» و«كركشنجى دبح كبشه»، ولكن التوافق بين شكل وهيئة أحمد عدوية ومضمون ما يغنيه والفرقة الموسيقية التى تصاحب غناءه، أكسب تجربته الغنائية المصداقية.
الربط بين أحمد عدوية ونكسة ٦٧ قدر يطارد المغنى، تقول ياسمين عنه: «لو لم يكن ظهور أحمد عدوية فى فترة الهزيمة النفسية للشعب المصرى لما نجحت تجربته الغنائية على الإطلاق، وذلك لأن الشعب بجميع طبقاته كان يبحث عن الخروج من الهزيمة النفسية التى نالت منه، وتحقق ذلك من خلال البحث عن كل ما هو جديد دون اعتبار لمعايير جودته الفنية أو ماهيته».
كانت الهزيمة التى لا يمكن أن نعفى عبدالناصر من المسئولية الكاملة عنها هى التى مهدت الأرض أمام عدوية وكشك إذن.
الزلزال الذى تعرض له المصريون فى يونيو كان مدمرا بشكل كامل، خرج الشعب من الهزيمة مدفوعا إلى حالة اغتراب كاملة، وهى الحالة التى حدثت فى اتجاهات ثلاثة.
الاتجاه الأول اغتراب ناحية المستقبل.. فقد قررت فئات عديدة أن تتجه إلى الغرب وتلقى بنفسها فى أحضانه، لم تترك هذه الفئة شيئا فى الغرب إلا جلبته، أفكار وموسيقى وأزياء وخلافه، فقد أدركت أن ما جرى فى مصر كان بسبب تخلفنا الشديد وعدم مواكبة العالم فيما يفعله أو ينجزه.
الاتجاه الثانى اغتراب ناحية الماضى، فقد رأت فئات كثيرة أن الهزيمة التى كسرت عظامنا لم تقع إلا بسبب بعدنا عن الله، وحتى نتخلص مما يحيط بنا فليس أمامنا إلا العودة إليه مرة أخرى، ولم يكن لهذه العودة معنى إلا الغرق التام فى كتب التراث وما فيها من أفكار تخاصم الواقع، وحكايات تضع الدين كله فى دائرة أسطورية تؤثر على مصداقيته.
هذا الاتجاه وجد الشيخ كشك نفسه فيه تماما، ولذلك كثيرا ما كنت تسمعه وهو يأخذ مستمعيه بما يشبه آلة الزمن، ويعود بهم إلى عهد النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، ليؤكد للناس أنه لا خلاص إلا بالعودة إلى الحياة كما كان يحياها النبى وأصحابه.
الاتجاه الثالث لم يكن ناحية المستقبل ولا الماضى، وربما لم يكن ناحية الحاضر أيضا، ولكنه كان اتجاها عبثيا بحتا، أو هكذا بدا أمام الناس، وهنا يظهر أحمد عدوية فى الذهنية العامة، فلأن البلد ضاع تقريبا بعد حرب ٦٧، فكان طبيعيا أن يظهر فن يعكس هذا الضياع، أو بالأدق يصبح جزءا منه.
الذين حملوا أحمد عدوية على أكتاف الرئيس السادات فعلوا ذلك لأسباب سياسية بحتة، أو لنكن أكثر صراحة، أقدموا على ذلك لأسباب تتعلق بكراهيتهم لكل ما يتعلق بالرئيس الذى راهنوا على فشله فى كل شىء، فنجح وخذلهم فى كل شىء.
الكاتب الكبير صلاح عيسى فى ملحمته «مثقفون وعسكر»، طرح سؤالا خبيثا، وقدم بين يديه إجابة أكثر خبثا.
قال: ما الذى جعل الرئيس جمال عبدالناصر يختار السادات نائبا له، وما الذى جعل العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ يغنى لعدوية ويتحدث عنه وكأنه يقدمه إلى جمهوره عن قناعة بموهبته؟.
ويجيب صلاح بخفة ظله ولماحيته وإحساسه الشعبى، بأن عبدالناصر كان يعرف ما الذى سيفعله السادات فى السياسة، ولذلك جعله خليفة له، ليترحم الناس عليه وعلى أيامه وعلى ما أنجزه، وهو نفس ما فعله حليم، فقد كان يعرف حقيقة ما يقدمه عدوية، فتركه يغنى، وبعد أن يسمعه يترحم الناس على عبدالحليم وعلى أيامه.
لا أخفى عليكم أننى انبهرت بهذا التحليل الألمعى، الذى أثبته صلاح عيسى وقت أن قرأته لأول مرة منذ سنوات بعيدة، لكننى عندما تأملته بعد ذلك اكتشفت أن كاتبنا الكبير كان سطحيا جدا فى نظرته، وربما أعماه انحيازه السياسى واختلافه الجذرى مع تجربة الرئيس السادات، وحجبه عن الحق وقوله.
الهزيمة أحبطت عدوية، ما فى ذلك شك، فهو مواطن مصرى كان ينتظر النصر الذى تحدثوا عنه، ولما لم يحدث انكمش على نفسه تماما، لكنه فى لحظة ألقى عن كتفيه حمولة الأيام، وقرر أن يكون صوت الناس الذين تاهوا، ولم يكن ذلك إلا لأن عدوية نفسه كان قد تاه تماما.
كشك لم يحبط، ولكن جاءته الفرصة كى ينتقم، فى اليوم الذى وقعت فيه النكسة كان الواعظ فى السجن لا يزال.
ما كتبه كشك فى مذكراته عن أيام الهزيمة، يدلنا على شيئين.
الأول، أنه كم كان مبتهجا بهزيمة الجيش، مثله مثل كل من لا يحملون ودا ولا حبا لهذا الوطن، وهم كثيرون ممن يعملون من أجل مصلحتهم الضيقة فقط.
والثانى أنه وجد ضالته وأدرك أن الزمن منحه فرصة الانتقام من عبدالناصر، ولم يكن فى حاجة إلا لمن يمكنه من هذا الانتقام، وهو ما جرى بعد ذلك عندما أصبح خطيب المساجد الأول فى عهد السادات.
بدأ كشك نسج أكاذيبه عما جرى وهو لا يزال سجينا، ومن بين ما رواه ونرى فيه عجبا قوله: لما أوشكت الحرب أن تقع بيننا وبين إسرائيل فى يونيو ٦٧ أذاعت القيادة علينا فى المعتقل، وأعنى بها الإذاعة المحلية، أنه من أراد أن يتطوع بالمال للقوات المسلحة فباب التطوع مفتوح، وظن الذين يقبعون وراء القضبان أنه بقدر ما يكون التطوع بقدر ما يقترب يوم الإفراج، فتقدم الأغنياء بمبالغ هائلة، والذى أحزننى أنه كان بجوارى أخ كريم كان يعمل بالبناء وكان يعول أسرة تتكون من زوجة وسبعة أبناء اضطروا أن يبيعوا أدوات العمل ليحصلوا على لقمة العيش بعد اعتقال عائلهم، فلما طلب منا أن نتبرع لما سموه المجهود الحربى، سألنى ذلك الأخ عن رأيى، هل يتبرع وهو لا يملك فى الأمانات سوى خمسة وعشرين قرشا أبقى عليها ليشرب منها قدحا من الشاى بعد تناول طعام السجن الذى يغلى فى البطون كغلى الحميم؟، فقلت له يا عم حسن رأيى أن تكتب اسمك فى سجل المتبرعين ولو بخمسة قروش حتى لا يوضع اسمك فى القائمة السوداء.
القصة قد تكون مؤثرة جدا، لكنها ليست منطقية على الإطلاق، فحتى لو تم التفكير فى الحصول على تبرعات من المساجين، فلن يصل الأمر إلى المتهمين فى قضية قلب نظام الحكم، لكن يحلو لكشك أن يلفق الأكاذيب ويرددها حتى تصبح واقعا، فلا يجد الناس بعدها بدا من تصديقها والتعامل معها على أنها حدثت بالفعل.
هل تعرفون الوجه الذى يحتله عندى الشيخ كشك؟
إنه تماما كما وصل لكم، إنه وجه جوبلز، وزير دعاية هتلر، الذى وضع قواعد شيطانية فى الدعاية لما يعتقد أنه صحيح، قال: اكدب واكدب واكدب حتى يصدقك الناس، وقال: كلما كانت الكذبة كبيرة، كان سهلا على الناس تصديقها.
قبل أن يخرج من السجن، كان كشك قد استقر بشكل نهائى على الطريقة التى سيتبعها لتشويه صورة عبدالناصر، وكل ما يمت له بصلة، قرر أن يكذب ويكذب ويكذب حتى يصدقه الناس، وحتى يكون سهلا عليه تمرير ما يقوله، ويكون سهلا على الناس تصديقه، فقد قرر أن تكون الكذبة هى أكبر كذبة فى تاريخ مصر.
كشف كشك عن فلسفته التى نسج حولها أكاذيبه.
قال فى مذكراته: ما جاء جمال عبدالناصر إلا ليحقق ثلاثة أهداف: أولها القضاء على الإسلام وثانيها تمزيق الصف العربى، والثالث تثبيت مكانة إسرائيل فى المنطقة.
يمكنك أن تستعيد هذا الهراء الذى تقيأه كشك فى مذكراته، وبعدها يمكن أن تسأل نفسك عن الإمعان فى الإفك الذى كان يمارسه الواعظ لمصلحة الإخوان المسلمين من ناحية ومصلحة الرئيس السادات من ناحية ثانية.
ظل كشك ومنذ حصل على الضوء الأخضر لتحطيم صورة عبدالناصر يؤلف الأكاذيب حول العصر الناصرى دون أن يهتز ضميره، والمؤسف أنه كان يمعن فى القسم بالله بأن ما يقوله هو الصدق، رغم أن ما بينه وبين الصدق هوة عميقة.
سأضع أمامكم بعضا مما قاله الواعظ الكاذب.
فى الخطبة رقم ٢١٤، التى ألقاها فى ١ أبريل ١٩٧٧، يقول كشك: اسمعوا هذا التاريخ المشئوم التعس، صلاح الشاهد يجلس أمام سيادة الزعيم الخالد ويشكو له ما يحدث داخل السجن الحربى، لعل ما كان يحدث لم يكن بعلم الزعيم، ولكن هذا الشاهد، كان شاهدا على الزعيم أمام الله، قال له: إن أحد الجلادين دخل ليهتك عرض إحدى المسلمات التى بلغت من العمر ستين عاما، ولما صمم على الإيقاع بها، قالت له يا بنى: أنا مثل أمك.. أتزنى بى؟ فخشع الوحش، خشع الوحش وبكى، الجلاد بكى، وكف عن العمل وخرج من أمامها كأنه ذبابة تريد أن تحجب بجناحيها ضوء أو نور القمر، فماذا قال الزعيم للشاهد؟ سأله سؤالا: واسمحوا لى أن أترجم الكلام إلى اللغة العامية، كما نطق به، قال له: هى قريبتك؟ فرد الشاهد: لا، فقال الزعيم: إنت متضايق ليه.. اتفضل اطلع بره.
ويعلق كشك على هذه الواقعة بقوله: استهتار بالقيم والمسئولية، سيدة مسلمة يعتدى على عرضها، والحادث مسجل فى الوثائق الرسمية، والذى دخل عليه هو صلاح الشاهد، وأبلغه بما جرى، وبما سيكون، وكانت الإجابة وعيدا وتهديدا وتوبيخا وزجرا ونهرا.
لم يقل لنا كشك أين سمع هذا الكلام ولا ممن؟ لم يرشدنا إلى الكتاب الذى قرأوا له منه هذا الكلام؟ ما أعرفه أن لصلاح الشاهد كتابا مهما هو «شاهد على عصرين»، ولم أجد فيه هذا الكلام الفارغ، لكن متى كان كشك حريصا على أن يقول لنا المصادر التى يستند إليها؟ كان كغيره من أبواق الإخوان يلقن ما يقوله، ثم يردده كالببغاء، دون منطق ولا عقل ولا ضمير، فقد استخدمت الجماعة كل الأسلحة القذرة للانتقام من عبدالناصر، وللأسف الشديد كان لهم بعض ما أرادوا.
مرة أخرى وفى الخطبة رقم ٢٣٤، التى ألقاها كشك فى ٢٣ سبتمبر ١٩٧٧، يقول نصا: كان الزعيم الخالد إذا أراد أن يلقى خطابا ونحن فى السجون، فإن الإذاعة تعمل فى السجون بواسطة مكبرات الصوت، ويدخل الجواسيس من المعتقلين لينظروا من الذى يسمع خطاب الزعيم وهو نائم على ظهره، فيكتب فيه تقريرا بأنه لا يحترم كلام الزعيم، ومن الذى إذا سمع كلام الزعيم وكان كلامه كله فارغا، وكان كلامه كله أجوف، وكان كلامه يشخشخ فيه الهواء، كما يشخشخ فى رءوس التماثيل.
هذا بعض من إفك الشيخ كشك الذى مارسه ضد جمال عبدالناصر، وتخيلوا أن صاحب أكبر خطاب غوغائى شهدته مصر فى تاريخها، يصف خطاب عبدالناصر بهذا الوصف.
اختلف مع عبدالناصر كما شئت، قل عنه ما تريد، احذف من تاريخه ما ترى، وأضف إليه ما ترغب، لكن فى النهاية يظل هو الزعيم جمال عبدالناصر، يظل خالدا بأخطائه وإنجازاته، أما الذين عادوه فقد ذهبوا إلى مزبلة التاريخ تطاردهم اللعنات.
لقد افترى كشك على مصر وعلى التاريخ وعلى الله وعلى جمال عبدالناصر، عندما صور صراعه مع جماعة الإخوان على أنه حرب على الإسلام، ورغبة فى إزاحته من الساحة تماما، اسمعه مثلا وهو يقول فى الخطبة رقم ٢٢ التى ألقاها فى ٧ يوليو ١٩٧٢: لقد جاء يوم على مصر سنة ١٩٦٥ كان الذى يقول فيه لا إله إلا الله جهرا، يصدر أمر باعتقاله، إذا قالها جهرا، إذا أراد أن يقولها، فليقلها سرا بحيث لا يسمعه الناس، فإذا قالها جهرا قامت حوله الشبهات، وتكون النهاية الزنزانة ١٩ فى القلعة.
هل يمكن أن يقول هذا الكلام عاقل؟
لا يمكن أن يقوله عاقل بالطبع، لكن يمكن أن يقوله موتور، قرر أن يشوه كل ما يتصل باسم عبدالناصر، فلم يكن الخلاف بين عبدالناصر وجماعة الإخوان على الإسلام، ولكن لأنهم حاولوا الانقلاب على السلطة، أرادوا أن ينتزعوا الحكم انتزاعا، وهو ما جرى بعد ذلك فى العام ٢٠١٢ عندما وصلت الجماعة إلى السلطة، فبدلا من أن تعمل من أجل الشعب كله، اغتصبت السلطة لصالحها، فكان واجبا أن يثور الشعب المصرى، وكان واجبا أن يساند الجيش ثورة الشعب على الجماعة الضالة.
لكن ولأن الجماعة قديما وحديثا تجيد فن التضليل، فقد جعلت الصراع بين خصومها وبين الإسلام، حتى تستعطف الناس إلى جانبها، لكن ولأنه إذا كان يمكنك أن تخدع بعض الناس بعض الوقت، فإنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت، بارت تجارة الإخوان، وأدرك الشعب أنهم ليسوا إلا تجار دين، يتلاعبون باسم الله ليحققوا مكاسب ويحققوا مصالح.
لم تكن حيلة الحرب على الإسلام وحدها هى التى يستخدمها الشيخ كشك ليهدم صورة عبدالناصر عند البسطاء من المصريين، بل كان يستعدى عليه الناس باتهامه بتعذيب النساء دون وجه حق، يقول فى الخطبة رقم ٢٣٠ التى ألقاها فى ٢٦ أغسطس ١٩٧٧: حضرت فى سنة ١٩٦٥، رأيت ما رأيت فى السجن الحربى من اعتقال النساء، وكان معهن أطفالهن، وكانت الطفلة الرضيع إذا بكت، تقول لها أمها: لا تبكى لك الله يا هالة، لك الله يا هالة، ورأينا نساء يجلدن فى سنة ٦٥، وفى باستيل مصر، يجلدن ويعلقن من أرجلهن، ورءوسهن إلى تحت، إلى أسفل، ويهددن فى الأعراض، وتطفأ أعقاب السجائر فى مواضع العفة منهن.
كان يردد كشك هذا الإفك من على منبره دون أن يحاسبه أحد، وأعتقد أنه ما كان ليقوله بهذه الجرأة وبهذا الإصرار على التكرار، إلا لأنه كان محميا، أو على الأقل كان يعرف أن هذا الكلام يروق لمن قرروا هدم شرعية عبدالناصر، من أجل بناء شرعية جديدة.
لقد ارتكب كشك جريمة لا تسقط بالتقادم، وهى جريمة اغتيال جمال عبدالناصر معنويا، وأعتقد أنه من حق الشعب المصرى أن يعرف تاريخ الذين خدعوه ودمروا كل شىء له قيمة فى حياته، ولم تكن لدينا أكبر وأهم من قيمة جمال عبدالناصر.
لم يكن الشيخ كشك أبدا داعية من أجل الإسلام، ولكنه كان فقط داعية لمصلحة جماعة، وتصادف أن مصلحة الجماعة تتفق مع مصلحة الرئيس، فأخذ كشك مساحته كاملة، وتركنا له أدمغة الناس ليعبث بها كيف يشاء.
ما أحتار فيه حتى الآن، أن مفكرينا ومبدعينا وكتابنا تركوا الساحة لكشك وحده، لم يقم أحد بتفكيك خطابه، ولا إظهار العوار الذى يعتريه، اكتفوا باعتباره خطيبا غوغائيا وانصرفوا عنه، حتى الذين كان يهاجمهم ويسىء إليهم لم يهتم أحد بالرد عليه منهم، قد لا يكون أحد منهم التفت إلى خطره، اعتبروه مجرد خطيب فى مسجد، دون أن يلتفتوا إلى أنه عبر ثورة الكاسيت كان أكثر تأثيرا وخطرا من أى جماعة منظمة ومسلحة.
لقد تضافرت الجهود كلها لتثبيت أقدام كشك.
خرج من السجن وهو يحمل فى قلبه كراهية الدنيا لجمال عبدالناصر، أعد العدة كى يجهز عليه، وتصادف أن الرئيس السادات كان يريد أن يبنى لنفسه شرعية بعيدة عن شرعية أنه خليفة عبدالناصر، وكل هدم فى صورة الزعيم الراحل مؤكد أنه يصب فى مصلحته، فترك كل الذين نالوا من عبدالناصر دون أن يعترض طريقهم، وحتى لو قلت إنه لم يعقد مع كشك صفقة مباشرة، فمؤكد أن كشك استفاد من رغبة السادات فى تحطيم سلفه، ثم كانت ثورة الكاسيت المهولة التى انفجرت فى السبعينات، حيث تمكن الشيخ من الوصول إلى ملايين الناس فى بيوتهم دون أن يبذل مجهودا كبيرا.
ولم أتعجب أن ترصد التقارير الصحفية التى رصدت مسيرة كشك ما قالته من أن جهاز الكاسيت مكن كشك من أن يكون له حضور طاغٍ خلال السنوات الأخيرة من حكم السادات، فقد كان من المستحيل السير فى شوارع القاهرة أو محافظات مصر دون سماع صوته ينطلق إما من سيارات الأجرة الجماعية أو من محال تناول العصير أو من ميكروفونات المساجد أو من المنازل والأزقة والحوارى، الأمر الذى دفع بعض وكالات الأنباء العالمية إلى وصفه بأنه «خمينى مصر».
لم يكن التشبيه غريبا، فقد صنع الخمينى ثورته بشرائط الكاسيت التى كان يهربها أنصاره إلى إيران سرا، واستطاع كشك أن يحقق أهدافه الخبيثة من خلال شرائط الكاسيت، ولولا أن الأقدار قصفت عمره لكان لما يقوله أثرا لا نريده، ونحمد الله أن عافانا منه.