رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات أسطوات الأغنية الشعبية «3»

الريس حنتيرة.. المبدع الذى ظلمته الأقدار


- عمل مع ملحنين وشعراء من غير المشاهير فلم ينل حظه من الدنيا
- غنى «يا غزال يا غزال» وشارك فى أوبريت «الليلة الكبيرة»


فى قريتى البعيدة جدًا عن القاهرة أم الدنيا لا توجد أضرحة ولا موالد ولا ليال كبيرة.. لكن كل أهلها بلا استثناء شاركوا ومازالوا يشاركون فى إحياء تلك الموالد.. سنة من بعد سنة.
أهل قريتى طيبون إلى حد الإيمان بأن «الأولياء أحباب الله».. وأن كل ولى هو بالضرورة «طيب» وفى يده أن يمنحنا الشفاعة.. وأن يجيب الحاجات بإذن الله.
هذه القرية التى أحدثكم عنها.. مازالت حتى هذه اللحظة ونحن فى العام الثامن عشر من بداية الألفية الثالثة تحتفل بيوم عاشوراء.. «آه والله».. وتصنع أمى تلك «الحلاوة الحمراء» فى ذلك اليوم.. مثلها مثل كل أقرانها من سيدات القرية.. وإذا سألتها «تعرفى حاجة يامه عن الشيعة».. سترد فورًا بتقول إيه أعوذ بالله.. ورغم سيطرة تيار سلفى تزايد مع رجوع هجرات الخليج على طقوس أهل القرية.. فإن السلفيين أنفسهم أو من يهتدى هديهم يحتفلون أيضًا بيوم عاشوراء.. والأغرب أننا لم نكن نعرف شكل «حلاوة المولد»- «العروسة والحصان».. فى يوم مولد النبى.. بل عرفناها من بين طقوس الاحتفال بيوم عاشوراء.. والأغرب أن تلك العروسة وذلك الحصان كان لونهما أحمر.. وإذا سألت أى فرد من «آل الفخرانى» وهى العائلة التى تخصصت فى صنع الحلويات بالقرية -وما زالت- عن سر ذلك الأمر، فلن يجيبك سوى بأننا «طلعنا لقينا أهلنا بيعملوها فى اليوم ده»..
المهم أننى ومن سن السابعة وجدتنى محشورًا مع شقيقى حمدى الذى يصغرنى وآخرين من أطفال النجع فى «عربة رمسيس» رايحين المولد.. فى بلدة تبعد عن قريتى ساعة ونصفا اسمها «أبوشوشة».. وهى إحدى قرى محافظة قنا.. ولم تترك لى أجواء المولد الذى بتنا فى ساحته فرصة للسؤال عن «ضرورة وجود أمى خارج منزلها» وهى التى لا تبارح عتبته بالسنوات؟!.. ألعاب وأكل وسط اللمة.. وحلاوة طحينية شعر.. ونداغة بيضة. يعنى من الآخر «ترويقة ما حصلتش».. أما المناسبة المعلنة فهى مولد سيدى مش عارف اسمه إيه.. وبالمرة.. محاولة أمى أن «ترقبنى».. لأننى أصحو مفزوعًا كل ليلة فى «أنصاف الليالى».. بلا أسباب عضوية أو موضوعية.
قطعًا لن أحدثك عن عدد الموالد التى ذهبت إليها فى الصعيد.. فلا تخلو قرية فى بلادنا من «عارف بالله».. ولن أحصر عدد المرات التى صاحبت فيها والدى لساحة ذكر.. لكن يمكننى أن أحسم الأمر بما ذكرته الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية التى ذكرت أن عدد الموالد فى مصر فى آخر حصر لها: «٢٨٥٠ مولدًا».. يحضرها ٤٠ مليون شخص من مصر والعالم سنويًا.. ولن أحاول تأصيل الظاهرة - مش موضوعنا - ولكن يكفى أن أنقل عن سليم حسن صاحب موسوعة مصر القديمة أنها امتداد تاريخى لاحتفالات المصريين بالآلهة.. وإضفاء أساطير ومعجزات على صفات كل منهم.. وهو ما يحدث مع الأولياء الذين نمنحهم «الكرامات» من عندياتنا إن لم توجد لهم كرامات. ومن أجل هذه الكرامات اخترقت موسيقى الحضرة عقلى وأنا صغير.. وصرت أبحث عنها فى الراديو الخشب الذى كانت تمتلكه أسرتى حتى مطلع ثمانينيات القرن الماضى.. ولم يخذلنى الراديو.. ووجدتها.. ليست مجرد «ليلة».. ولكنها الليلة الكبيرة.. وبسببها أدمنت صلاح جاهين وسيد مكاوى دون أن أعرف أنهما صناعها.. فقد استهوانى غناء محمد رشدى.. وطار فى الهوا شاشى.. مثلما استلبنى ذلك الصوت الذى لم أكن أعرف صاحبه.. ولا أظن أن أحدًا من أبناء الجيل الجديد يعرفه.. صوت الريس حنتيره الذى يغنى فى مقهى المولد: يا غزال يا غزال
العشق حلال..
دوبنى أنى دوب
خلتنى خيال..
يا شفتك فص فراولَه
وأنا لا قوة ولا حولَه
شقلبتلى عقلى علولَه
آه يا غزال

ليل ونهار وأنا أمضى فى «قيالة الجسر» عائدًا من مدرستى «أرقع وأغنى بالموال» كذلك الرجل الذى يعاكس الغزلان وأنا لا أعرفه.. ومرت سنوات حتى وقعت فى يدى نسخة من «ألبوم الليلة الكبيرة».. طبعته «صوت القاهرة» وجدته وأنا نازل من ماسبيرو فى الفرع الكائن بجوار المبنى.. وطرت متلهفًا أطالع أسماء صناع العمل الذى أصبح واحدًا من علامات تراثنا الغنائى.. ووجدته.. اسمه صلاح عبدالحميد.. ولكن من هو.. ما حدش عارف عنه حاجة.

ساند ثورة ٢٣ يوليو.. وشارك مع حورية حسن فى أولى أغنيات الإصلاح الزراعى
«الليلة الكبيرة» التى أبدعها عمنا صلاح جاهين لم تكن مصنوعة لمسرح العرائس كما يتصور البعض.. لقد أبدعها جاهين عندما رأى وفرة مدهشة فى إنتاج الإذاعة المصرية من الصور الغنائية.. تلك التى تزخر بها المكتبة ولا يعرف البعض قيمتها كذاكرة فنية وحضارية.. ومن بين تلك الأوبريتات كان هناك أوبريت اسمه «الدندرمة» كتبه محمد متولى ولحنه عزت الجاهلى وأخرجه «بابا شارو» للإذاعة وأعيد تصويره فيما بعد بالممثل وراقص الفنون الشعبية حسن السبكى الذى أدى دور محمود فى فيلم «شىء من الخوف».. «ابن الشيخ، العريس الذى قتله عتريس».. وفى أوبريت الدندرمة ستبهر بصوت صلاح عبدالحميد أيضا.

فمن هو هذا الرجل الذى تسلل إلى «مخى وقلبى» ومش عارفله شكل ولا ملة؟.
قبل أن أجيبك.. تعرف إيه سعادتك عن «الدندرمة» عشان تعرف صلاح عبدالحميد اللى كان بيغنيها مع سعاد مكاوى وإبراهيم حمودة.
لا أخفيكم سرًا أن من جذبنى للأوبريت ليس صوت صلاح عبدالحميد.. ولكن طعم «الجيلاتى».. الذى لم نكن نعرف متعة تناوله فى حر صيف الصعيد.. ذلك الرجل الذى يمر فى عز الضهرية ليمنحنا «كوز بسكويت مملوءا بالجيلاتى الأبيض والأحمر».. كان يصنع من لونين فقط قبل أن نشاهده بعشرات الألوان ويدلعوه ويسموه آيس كريم.
كان عم شعبان صاحب العربة الذى كتب عليها «دوق دوق الدندرمة مصنوعة بذوق الدندرمة» بخط عربى رائع.. يبيع «الكوز الواحد» بستين فضة.. يعنى قرش ونص.. أو «بيضة من عشة الفراخ».. أيهما تستطيع أن تحصل به على تلك النغمة ومعاها غنوة من عم شعبان المغرم ببضاعته:
مصنوعة بذوق
تروى العشاق
وتطفى الشوق
الدندرمة..
اللى زعلان..
من كوبايتين حالا حيروق
وإن كان حران
بعد دقيقتين مضمون حيفوق
م الدندرمة.
عمومًا.. الثابت أنها كلمة تركية «طو كديرمه».. وباختصار معناها «الحلوى المثلجة».. وقيل إنها دخلت إلى الحجاز عن طريق معتمرى تركيا.. أما القاهرة فقد عرفته فيما بعد عام ١٩٣٠.. على يد «اكيل جروبى» صاحب المحل الشهير بوسط البلد.. حيث تحولت الدندرمة من مجرد «شربات مثلج» إلى الآيس كريم.. وقد أممته ثورة يوليو فانتقلت المحلات لإدارة حكومية ثم عادت للقطاع الخاص حتى وصلت محلات جروبى «وآيس كريمها» إلى الملياردير الإخوانى عبدالعظيم لقمة. الثورة نفسها التى أممت محلات الدندرمة.. هى سر نجاح صلاح عبدالحميد.. أو الريس حنتيرة.. فقد كان واحدًا من أول داعميها لحظة قيامها عندما شارك المطربة «حورية حسن» أولى أغنيات الإصلاح الزراعى فى سبتمبر عام ١٩٥٢.. تلك التى كتبها أبوالسعود الابيارى ولحنها أحمد صدقى واسمها «طينك على راسك» ومنها المقطع الشهير:
طول عمرى لابس خيش
ما كنت يوم قالعُه..
ولا كلت لقمة عيش من قمح أنا زارعُه..
الله يخلى الجيش
دعساكره منصورين..
قاللى يا واد.. يا عليش
خدلك خمس فدادين..
ياللى الزمان داسك
هتعيش لميتى ذليل؟.

والواد عليش هو نفسه «كروان الفن وبلبله» الذى يغنى فى فيلم دهب مع المطربة الصغيرة فيروز.. أيوه.. هو ذلك الصوت الذى تم تركيبه على «صورة أنور وجدى».. ويغنى ببراعة ذلك المقطع:
ويغنى من غير منفعة
ويقال عليه بنقورة
ويلبس كل مرقعة
والناس جميعًا تحسده

هذا هو صلاح عبدالحميد مدرس الموسيقى فى مدرسة على مبارك الإعدادية. ذلك الرجل الذى كان يقوم بتحفيظ تلاميذه النشيد «اسلمى يا مصر إننا للفدا».. ثم يصحبهم إلى المتحف الزراعى ليعلمهم تاريخ مصر.. وهو الرجل خفيف الدم الذى قام بأداء دور «نابليون» فى أوبريت «عنبر العقلاء» مع إسماعيل ياسين.. وهو الذى غنى لفاتن حمامة فى فيلم «الأستاذة فاطمة» أغنية «من درجة جيد جدًا».. وهو نفسه صاحب أغنية «زى اللوز يا مدمس».. التى كتبها إبراهيم كامل رفعت ولحنها خليل المصرى..
زى اللوز ولذيذ يا مدمس
شغل إيديا وزيه ما فيش
خدلك منه بقرش وغمس
فول متنقى وعليه تحابيش.



غنى «على حسب وداد قلبى» قبل توظيفها بـ«غرام فى الكرنك»
يبدو أن القدرات الصوتية الفائقة لصلاح عبدالحميد أغرت أهل صناعة الفن فى فترة نجاحه الأولى لاستخدامه فى تلك الجمل اللحنية التى تعبر عن حالات شعبية ومظاهر لا يصلح لغنائها مطرب العواطف.. فغنى عمنا صلاح أيضًا للنعناع الأخضر:
أخضر وجميل النعناع
ومريح شارى وبياع
والله النعناع صحبة ظريفة
والكل عشان خاطره يجينى
وحابيع الحزمة بتعريفة
وإن قل المكسب يرضينى
لا نبيع ولا مكسب طماع
أخضر وجميل النعناع.

ولأننا كنا فى زمن طبق المدمس يكفى عشرة أنفار.. وحزمة النعناع بتعريفة.. كان من الطبيعى أن يذهب جمهور سينما القاهرة ليبحث عن أغنية لطيفة ودمها خفيف مثل أغنيات صلاح عبدالحميد ومنها أغنية شهيرة اسمها «سد يا نونو سد»..
آه يانى يا قلبى يانى
معلش يا عينى سد
من غلبى وم اللى جانى
حرمت أحب حد.

وتلك الأغنية تضمنها فيلم إسماعيل ياسين فى البوليس، وكان عمنا صلاح يؤدى دور مطرب عاطفى اسمه «سكر عبدالحميد».
وبالمناسبة صلاح عبدالحميد الذى عمل مدرسًا أيضًا بمدرسة المحمودية الإعدادية.. وعدد كبير من مدارس وسط البلد بالقاهرة هو أحد أوائل من غنوا «على حسب وداد قلبى» بتيمتها الأصلية قبل أن يعيد على إسماعيل توظيفها فى فيلم «غرام فى الكرنك».. وبليغ حمدى فى أغنيته الشهيرة لعبدالحليم حافظ..
على حسب وداد قلبى
وانا اقول للزين سلامات
سماره يابوى وعاجبانى
وخدنى هواه وراح منى
وفاتنى فى حب وجدانى
ماليش فى اللف طمنى
والشوق حيرنى وطالبى
على حسب وداد قلبى
والليل سهرنى وطالبى
على حسب وداد قلبى
وأنا أقول للزين.. سلامات.

وحسب المؤرخ زياد عساف فى كتابه «المنسى فى الغناء العربى».. عمل صلاح عبدالحميد مع ملحنين وشعراء من غير المشاهير.. فلم يلحن له الموجى أو بليغ حمدى.. وهو ما يعتبره سببًا فى عدم نيل حظه من الشهرة التى يستحقها.. حتى إننا لا نعرف شيئًا عن أسرته أو تلاميذه أو المقربين الذين عاصروه وإن كان من بينهم الموسيقار عبده داغر.. ليظل مجرد مطرب وموسيقى ركب قطار الغناء دون أن يتوقف فى محطة محددة لنيل ما يستحقه من أوسمة ونياشين فيما حصل عليها عشرات من المنافقين.. ويبدو أن الرجل كان يشبه إلى حد كبير أغنياته وإحداها تدعونا وبشكل واضح لعدم وضع اعتبار أو حسابات للهم والدنيا ومشاكلها:
اوعى فى غلب الدنيا تفكر
لحسن تضحك هيّه عليك.