رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبد الشافي يكتب: إحنا متراقبين يا برنس

جريدة الدستور

كنا نحتفل بعيد ميلاده، فهذه الليلة سيبلغ حسام سن الأربعين، حيث الحكمة والهدوء وما إلى ذلك من أوهام عشناها ولم نصدقها كما يصدقها هو اليوم، لكن لا بأس فقد أرسلنا فى الصباح باقات الورد فى تعليقات متتالية على الفيديو العظيم الذى أعده له «فيسبوك»، وتضمن شريطًا مطولًا من صور جمعتنا فى الميدان وساقية الصاوى وشارع المعز وقهوة الحرامية، كان بعضنا أصغر بكثير مما بدا عليه، وإن ظلت البنات متألقات مبهجات كما هن فى الصور، أقول لك كنا نحتفل بعيد ميلاده وكان سعيدًا باللمة وضحك الصديقات والأصدقاء والطراطير الحمراء والصفراء، وانتهزتُ الفرصة لأخبر هذا الجمع بأن رقم هاتفى تغير بعد سرقة موبايلى، وإكرامًا لحسام وأربعين حسام بدأت به، وبينما يفتح الموبايل ويجهز نفسه للتسجيل إذ به يصرخ فجأة كالملدوغ بنملة بين فخذيه وهو يسمع كود الشركة المصرية الجديدة التى أصبح خطى عليها!.
مالك يا عم؟، فشدّ واحدة إسكندرانى معتبرة أثارت الرعب فى قلبى: يعنى إنت مش عارف؟!، وجاءت هند من الخلف: الشركة دى معمولة للمراقبة يا برنس، وقال وليد: «همه إدوك الخط ده عشان تتجسس علينا ولا إيه»؟، وتطاير رذاذ من الجاتوه مع ضحكاته الساخرة، وتحدثت سناء، ظهر على أسنانها بقايا روج، بجدية: مركبين بتاعة صغيرة جدًا بحجم راس دبوس فى الشريحة بتنقل المكالمات والصور كمان، ثم شهقت كأنما تذكرت أمرًا مهمًا: عارف رأسمال الشركة دى كام مليون دولار؟، وهزت رأسها هازئة ولم تقل كم مليونًا!، وانصرفوا عنى، وبقيت وحدى طريدًا محطم الوجدان تأخذنى الظنون والشكوك فى الخط وسنين الخط، وفى صديقى عبدالوهاب داود الذى أهدانى إياه تعاطفًا بعد سرقة الموبايل، ولعب الفأر فى عبى وتخيلت عبدالوهاب وهو يدس لى الخط دسًا ليضعنى فى هذا الموقف بين أصدقائى وأنا بغبائى الشديد بلعت الطعم، حاولت أن أشرح لهم ملابسات الموقف ربما يتخففون من نظرات الاحتقار والتوجس التى بدأت تثير أعصابى لكنهم لم يهتموا، صعدت حواجبى لأعلى وتجمدت ملامحى تقريبًا.. وترددتْ أصداء كلمة تراقبنا.. تراقبنا.. بنا.. بنا.. حتى أطفأت الشموع، وأصبح طعم التورتة والجاتوه كالعلقم، فلم أدر ماذا أصنع؟، فأنا متهم وغير قادر على الكلام، وعفّرت سيجارتين أو ثلاثة لا أذكر، وخفتت الموسيقى، ونظرتُ إليهم جميعًا وتساءلت: هيراقبوا الأشكال دى ليه يارب؟! حسام مدرس تاريخ بائس، وليد مترجم بالقطعة، هند موظفة فى ريسبشن فندق متواضع، سناء مرشدة سياحية لا تُرشد أحدًا، وأنا مكسور أمامهم بلا مبرر فى هذه اللحظة السخيفة من التاريخ، وتنهدتُ بقوة وأخرجتُ زفرة قوية كزفرات تنين غاضب، وعاودت الشهيق وهدأت أنفاسى وتوجهت إلى حسام:
حسام.. حبيبى.. هو الراجل بتاع «فيسبوك» اللى عمل الفيديو بتاعك النهارده.. جاب صورك منين؟ من عند المصوراتى؟ ولا من عند أمى؟ مش فيه واحد دخل لا مؤاخذة عندك وقلب فى الصور واختار وحنتف وحسس وجابهم لا مؤاخذة ولا إيه؟!، فتغيرت ملامحه واحتقن وجهه، بينما واصلتُ كلامى كبطل فيلم أمير الانتقام وهو يبوخ أصدقاءه توبيخًا غير مسبوق، فمضيت إلى هند: «مش حضرتك برضه اللى قولتى إنك كنتى بتشترى حاجات من السوبر ماركت ورجعتى البيت لقيتى إعلانات عن أنواع الألبان والشامبوهات؟ وتندرنا سويًا يومها وقلت إن الفيس ممكن يشم الريحة بعد كده وينزل إعلانات فوط صحية.. إنتى ولا مش إنتى.. اللى قولتى»، واختتمت محاضرتى مستخفًا بهم وبطريقتهم فى التفكير فسألتهم عن رأسمال باقى شركات الاتصالات وجنسيات أصحابها وطريقة تعاملهم مع أسرار العملاء!، فأصابهم ارتباك وصمتوا صمتًا رهيبًا جعلنى أتمادى فى خطبة عصماء عن الفراغ الذى يجعلنا نسبح فى فضاء من الأكاذيب التى نصدقها كبلهاء دون تفكير أو مراجعة لما نسمع، لم أكن مشغولًا بالشركة الجديدة ولا بخدماتها ومميزاتها، فهى ليست ملاكًا وسط كل هؤلاء الشياطين الذين يتحكمون فى الهواء ويصنعون ثروات طائلة، بينما نحن نتعارك ونتفنن فى تحقير بعضنا البعض بعدما أصبح التخوين عادة والتشكيك نضالًا حتى وإن كان فى وطنية الأصدقاء ومواقفهم.