رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نصر حامد أبوزيد يكتب: لماذا يجب إلغاء المادة الثانية من الدستور؟

نصر حامد
نصر حامد

- العلمانية وحدها هى التى تفتح آفاق الحرية والعقلانية وتعدد المعانى
- يجب ألا يكون للدولة دين تتبناه وتدافع عنه وتحميه


سيقول لنا فلاسفة الفكر الإسلامى إنّ أوروبا احتاجت الإصلاح الدينى بسبب «الكنيسة»، المرض الذى لا وجود له فى حضارتنا. وهنا بالضبط يكمن الخطأ، فلدينا كنائس لا كنيسة واحدة، إذا كان معنى الكنيسة وجود سلطة، أو سلطات، تحتكر المعنى الدينى، وتكفّر كلّ من يخالف هذا المعنى. لدينا وفرة وافرة من هذه السلطات، التى تحتكر، إلى جانب المعنى الدينى، المعنى الاجتماعى والمعنى الثقافى والمعنى السياسى، بالإضافة إلى المعانى الأخلاقية والروحية، وكلّها معان يتمّ احتواؤها داخل المعنى الدينى، الذى تنتجه هذه السلطات.
مشكلة الخطاب الدينى أنه يلعب على أوتار «الخصوصية»، وكأننا بدع بين البشر، ما أصلح العالم لا يصلح لنا، دون أن يدقّق المخدوعون بمفهوم «الخصوصية» - المطروح فى الخطاب الدينى - ليدركوا أنها خصوصية فقيرة جدًا ومغلقة؛ لأنها تختصر هوية الإنسان فى بعد واحد من الأبعاد العديدة، وهو بعد «الدين».
ليست المشكلة أن هناك جماعات تحتكر الإسلام، وتنسب نفسها- وحدها- إليه. هذه أحد تجليات المشكلة وليست كل تجلياتها. لو كان الأمر مجرد انضمام لجماعة، تزعم أنها «إسلامية» على سبيل الاحتكار لهان الأمر، خاصة إذا كان المجتمع، خارج الجماعة، واعيًا بأنها مجرد جماعة. بداية المشكلة كانت فى مصر ١٩٢٨، حيث نشأت «جماعة الإخوان المسلمين»، وجدت «جماعة أنصار السنة المحمدية»، وجماعات وتجمعات كثيرة لها أسماء أخرى، ولم تكن الدولة تتبنى زعم أى واحدة من هذه الجماعات. كانت هذه إرهاصات «المجتمع المدنى فى مصر شبه الليبرالية، حيث تحمى الدولة حق الناس فى التجمع وتنظيم تجمعاتهم فى شكل قانونى، سواء فى شكل نادٍ، أو نقابة، أو حزب، أو جمعية خيرية، أو دينية: إسلامية أو مسيحية أو يهودية.
الكارثة الآن أن الدولة، تتبنى نفس النهج؛ فتزعم أنها دولة إسلامية، وتحرص فى صياغة قوانينها على الحصول على موافقة المؤسسة الدينية. بل تتبنى فى نظامها الاقتصادى مفاهيم «الاقتصاد الإسلامى، الذى يحتلّ ركنًا خاصًا داخل كلّ البنوك. وصار هناك الزى الإسلامى، والشعار الإسلامى، والبرامج الإسلامية، فى الإذاعة والتليفزيون، وصار بعض الناس يحملون لقب «المفكر الإسلامى. الخطر هنا فى هذه الأسلمة، التى لا هدف وراءها سوى سحب بساط احتكار الإسلام من تحت أقدام المعارضة. يمكن القول باختصار إن النظام السياسى يسجن نفسه فى خندق المعارضة الإسلامية، وهو يظن أنه يحاربها. لقد انتصرت بأسلمة المجتمع والدولة، دون الوصول إلى السلطة. وهذا يفسر حالة التراوح فى تقديم برنامج سياسى لخوض الانتخابات من جانب المعارضات الإسلامية. إن شعار «الإسلام هو الحل» كافٍ ما دام النظام السياسى يحول الشعار إلى سياسة.
المعضلة، فى هذا الوضع، ليست فقط معضلة المسلم الذى لا يريد أن ينتمى لهذه الأسلمة الإكراهية، بل المعضلة الأكثر تعقيدًا معضلة غير المسلم الذى يعيش بالإكراه والإرهاب بقوة القانون المتأسلم فى مجتمع، لا يأبه به، ولا يعير دينه أى قيمة، إلا بطرف اللسان والبلاغة اللفظية. وضع المرأة أنكى وأنكى، ووضع الفكر والمفكرين، والإبداع والمبدعين لا يحتاج مزيدًا من الإيضاح.
إنّها «العلمانية» -التى تفصل بين الدولة ونظامها السياسى وبين الدين- هى وحدها التى يمكن أن تفتح آفاقًا للحرية والعقلانية وتعدّد المعانى. الدين شأن المتديّنين، ومهمّة الدولة أن تضمن حرية الجميع، وتحمى البعض من البغى على البعض باسم الدين أو باسم هذا المعنى أو ذاك لدين بعينه. لكنّ العلمانية لا يمكن أن تتأسّس دون الإصلاح الدينى، إصلاح لم يتحقّق بعد عندنا، بل تحقّق فى أوروبا القرن السادس عشر. لم تحدث عندنا ثورة فلسفية كالتى أحدثها فلاسفة أوروبا، تلك الثورة التى على أساسها تحقّقت الثورة الاجتماعية والسياسية التى أرست مفهوم «المواطن»، وأحلّته محلّ مفهوم «الرعية»، المفهوم الحاكم فى مجتمعاتنا، رغم بلاغة الدساتير فى تأكيد «المواطنة». بعد تحرّر الإنسان من نير الطغيان السياسى، ونير التصوّر الكنسى للعالم، بفضل كلّ ما سبق –الإصلاح الدينى وثورة الفكر الفلسفى والعلمانية– تحققت الثورة العلمية.
كل شىء ولد فى مجتمعاتنا مختنق، بسبب أن «الحداثة» الوافدة تم تمزيقها أشلاء فى الوعى التحديثى -ولا أقول الحداثى- فتم رفض الأساس العلمى للتقنية، بكل مكوناته من عقلانية وعلمانية.. إلخ. تمّ تقبّل الديمقراطية، دون أساسها، وهو حرية الفرد، تمّ تقبّل الاقتصاد الحرّ، دون أساسه من حرية الفكر. لم يحدث الفصل بين السلطات، ولا كان ممكنًا أن يحدث، لارتباط مفهوم السلطة بمفاهيم قروسطية، مثل «الراعى» و«الحامى» و«الزعيم الملهم» و«الرئيس المؤمن» و«أمير المؤمنين».
هناك الآن أهمية قصوى لفصل الدين عن الدولة، إذا نظرت حولك ستجد النتائج المأساوية لهذا الزواج الكاثوليكى المحرّم بين الدولة والدين فى عالمنا العربى. الدين لا تستخدمه الجماعات الراديكالية أو الإسلاميون فقط، إنما تستخدمه الدولة، وهذا أمر يعود تاريخه إلى النصف الثانى من القرن العشرين، فى العالم العربى كله والعالم الإسلامى كله.
فصل الدين عن الدولة غير فصل الدين عن المجتمع، لا يستطيع أحد أن يفصل الدين عن المجتمع، الدين تاريخيًا مكون اجتماعى، وليس مجرد مكون شخصى أو فردى. قد يبدأ الدين كذلك، أى يبدأ تجربة شخصية فردية، وقد يظل كذلك فى بعض التجارب. لكنّ بعض التجارب الدينية الشخصية الفردية يتمّ تحويلها إلى تجربة مشتركة تخلق جماعة، تصبح مجتمعًا ثمّ تتطوّر إلى «أمّة». فى هذه الحالة الأخيرة يصبح الدين قوّة وشيئًا لا يمكن انتزاعه من المجتمع.
الدولة ليست المجتمع، بل هى الجهاز الإدارى والسياسى والقانونى الذى ينظم الحياة داخل المجتمع. وإذا كان الدين قوة اجتماعية، فهو أيضًا ليس المجتمع؛ إذا المجتمع جماعات وأديان. ومن حقّ هذه المجتمعات على الدولة أن تحمى بعض الجماعات من الافتئات على حقّ الجماعات الأخرى. من هنا فدور الدولة كجهاز منظم لسير الحياة فى المجتمع -المتعدد الأديان بطبيعته- يجب أن يكون محايدًا، بألا يكون للدولة دين تتبنّاه وتدافع عنه وتحميه. إن دورها حماية الناس لا حماية العقائد.
لم يحدث فى التاريخ كله -رغم كل الادعاءات الأوهام- مثل هذا الفصل بين الدين والمجتمعات. الدولة ليس لها دين، ولا يصحّ أن يكون لها دين. «دين الدولة الإسلام»، عبارة يجب أن تكون مضحكة؛ فالدولة لا تذهب إلى الجامع ولا تصلى، والدولة لا تذهب إلى الحجّ، ولا تصوم، ولا تدفع الزكاة. الدولة ممثلة فى النظام السياسى مسئولة عن المجتمع بكل أطيافه بما فيها الأديان. معظم الدول العربية والإسلامية موزاييك من الأديان. وهذا يعنى أنّ الدولة التى لها دين تلغى حقوق المواطنين الذين لا ينتمون لهذا الدين، بل الأدهى من ذلك أن هذه الدولة تضطهد أبناء نفس الدين، الذين يفهمون الدين بشكل يختلف عن المؤسسات الرسمية للدولة. هكذا تصبح مفاهيم، مثل «المواطنة» و«المساواة» و«القانون» مفاهيم خاوية المعنى.
الحاجة الثانية: هى الدساتير، من العبث القول أن المواطنة هى أساس الانتماء، ويُقال فى نفس الدستور «الشريعة -أو مبادئ الشريعة- هى المصدر الرئيسى للتشريع»، هذا تناقض جدى جدا بين مادتين فى الدستور تلغى إحداهما الأخرى. يزداد الأمر تناقضًا حين يحرِّم نفس الدستور فى مادة أخرى قيام أحزاب على أساس دينى، لا إله إلا الله!
الحزب الدينى يقول نفس الكلام (الدستورى)، يقول: «الإسلام دين الدولة والشريعة هى مصدر التشريع»، كيف تحرّم قيام حزب يتبنّى نفس القيم الدستورية التى يتبنّاها، ويدافع عنها بضراوة، الحزب الوطنى الحاكم فى مصر. إمّا أنّ الدستور «لعب عيال» أو أنّ الحزب الوطنى حزب غير شرعى، مثل الجماعة غير الشرعية إياها.
ماذا يعنى أن يكون للدولة دين؟ وماذا يعنى أن يتنازع المتنازعان -الحزب الوطنى والجماعة «غير الشرعية»- على أحقية الحكم على أساس مرجعية «الشريعة»؟ هذا يعنى ببساطة تهميش غير المسلمين فى المجتمع، وانظر حولك وتأمّل حال الأقباط والبهائيين فى مصر، وما حدث لغالبية الأقباط من اعتبار «الكنيسة» وطنهم. حدث أيضًا باسم الشريعة تهميش دور المرأة فى المؤسسات السياسية والتعليمية والإعلامية. لا يصرخنّ أحد فى وجهى بأن ذلك غير صحيح، فأنا أعلم أن ثمة ديكورات للتجمّل فى عالم تضغط فيه المنظمات العالمية لحقوق الإنسان وحقوق المرأة على الأنظمة والأحزاب السياسية. الذى يعانيه المواطن المسلم غير المتفق مع الدولة فى تفسيرها وتفسير مؤسساتها للدين أنكى وأمر؛ فهناك الاتهامات الجاهزة بالردة والخروج على الثوابت، وهناك المطاردات البوليسية بالاعتقال، بل وصل الأمر مع من يسمّون أنفسهم «القرآنيين» أو «أهل القرآن» باضطهاد أهلهم وذويهم. كل هذا يجعل من ادعاء «عدم وجود كنيسة فى الإسلام» محض بلاغة لفظية فارغة من المعنى؛ فالكنيسة لم تفعل بمخالفيها فى العصور الوسطى أكثر من ذلك.
فى العقد الحالى -العقد الأول من القرن الواحد العشرين والذى يوشك على النهاية– صارت الدولة أكثر راديكالية فى تحديد دينها وفى ملاحقة خصومها، وإن لم تنص على ذلك فى دساتير أو قوانين. صارت الدولة ذات الأغلبية السنية تضطهد الشيعة، والعكس صحيح، وتزايد الاحتقان بفعل الخطابات الإعلامية غير المسئولة، فتم تصنيف البشر داخل الدين الواحد إلى طوائف تكفّر كلّ منها الأخرى. العراق حالة محزنة بحكم تاريخه الطويل فى العيش المشترك والتزاوج والمشاركة الكاملة فى الوطن. فى لبنان -هايد بارك العرب- صار التأزم الطائفى بينا فى الواجهة السياسية. كل هذا يرشح حلًا وحيدًا: أن تتخلى الدولة عن امتلاك الدين. الدولة لا دين لها. تحكى قصة لجنة إعداد دستور ١٩٢٣ فى مصر أن أعضاء اللجنة ترددوا فى مسألة هذه المادة التى تنص أن «دين الدولة الإسلام»، هل هى ضرورية أم يمكن الاستغناء عنها. والغريب فى القصة أن أعضاء اللجنة الأقباط عبروا بوضوح عن رأيهم بأنه «لا ضرر» من النص على ذلك فى الدستور. وقد كان، علق طه حسين فيما بعد «وقد وجدنا فيها الضرر كل الضرر». المعنى هنا أن التجربة كشفت عن ضررها. وفى تقديرى أنّ أعضاء اللجنة الأقباط المغمورين بمناخ شعارات ثورة ١٩١٩ «الدين لله والوطن للجميع» أرادوا أن يعبروا لإخوانهم المسلمين عن ثقتهم وفخرهم بالانتماء للفضاء الثقافى العربى الإسلامى. أما وقد ظهر الضرر، فعلى المسلمين أن يردوا الدين ويسترجعوا ثقة إخوانهم الأقباط بإلغاء هذه المادة من الدستور، فهل هم فاعلون؟!