رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نوال السعداوي تبحث عن الله

نوال السعداوي
نوال السعداوي

- عرفت من المدرس فى المدرسة أن الله مذكر وليس مؤنثًا حسب قواعد اللغة.. وأن القرآن كتاب الله يخاطب الذكور فقط
- جدتى الفلاحة تقول بلغتها العامية ربنا هو العدل عرفوه بالعقل وبعضهم الآخر مثل عمى الشيخ الأستاذ بالأزهر يقول إن عقل الإنسان يعجز عن معرفة الله


لا تزال نوال السعداوى قادرة على دخول «المناطق المحرمة». بالنسبة إلى «نوال»، فإن عقل الإنسان لا يكُف عن طرح الأسئلة المحرمة، تتلاشى الثنائيات والفواصل بين الحقيقة والخيال، والعلم والفن، والجسد والروح والزمان والمكان. هذا ما تفعله بالضبط فى أحدث إصداراتها «المناطق المحرمة بالإثم والخوف»، الصادر مؤخرًا عن دار مصر العربية للنشر. هذا الكتاب يضم مجموعة من المقالات التى تُنشر لأول مرة، وتتضمن أفكارًا وآراءً تصفها «نوال» بأنها من أجرأ ما كتبت. من بين أهم ما جاء فى الكتاب، دراسة عن الفلسفة والتغيير لم تُنشر، تعيد «الدستور» نشرها هنا، احتفاء بصدور هذا الكتاب.

منذ الطفولة كنت- مثل كل الأطفال- أشعر بلذة حين أفكر. رادوتنى أسئلة تراود الأطفال جميعًا من نوع: من خلق النجوم فى السماء؟
ويكون الرد: ربنا.
ويأتى السؤال الطبيعى الثانى: ومن خلق ربنا؟
كلمة ربنا «الله» تحير الفلاسفة وأحيانًا يعمل عقل الأطفال بجرأة أكثر من الفلاسفة فى الخوض فيما أطلق عليها المحرمات أو المقدسات، لأن الفلاسفة يدركون مخاطر السجن والنفى إن تعرضوا للسلطة الحاكمة سياسيًا ودينيًا لكن الأطفال لا يعرفون هذا الخطر إلا بعد التربية والتعليم فى المدارس والبيوت.
كان معنى هذه الكلمة «الله» يتغير بتغير الأشخاص من حولى، بعضهم مثل جدتى الفلاحة تقول بلغتها العامية «ربنا هو العدل عرفوه بالعقل» وبعضهم الآخر مثل عمى الشيخ الأستاذ بالأزهر يقول إن عقل الإنسان يعجز عن معرفة الله أو إدراك حكمته حين خلق الظلم أو الشر. إلا أن عقلى الطفولى لم يكن يقبل الظلم قط، وقد وقع أول ظلم فى حياتى من أبى حين رأيته يفضل أخى علىّ لمجرد أنه ولد وليس بنتًا، رغم أننى أتفوق على أخى فى المدرسة وفى الفهم أى فى الذكاء، وسألت لماذا هذا الظلم؟
وعرفت من المدرس فى المدرسة أن الله مذكر وليس مؤنثًا حسب قواعد اللغة، وأن القرآن كتاب الله يخاطب الذكور فقط، وأن الذكر له حظ الأنثيين. وشطب المدرس على اسم أمى الذى كتبته على كراسة المدرسة مع اسم أبى، وقال لى غاضبًا: اسم الأب فقط هو الذى تكتبينه مع اسمك.
وحزنت يومها بسبب الظلم الواقع على أمى التى كانت ترعانى أكثر من أبى.
وكنت أرى الظلم منتشرًا من حولى فى حياة الفلاحات والفلاحين الفقراء فى عائلتى وقريتى الحزينة الراقدة فى حضن النيل وسط الدلتا.
وسألت: من أين يأتى الفقر؟
وجاءنى الرد: الله يخلق الغنى والفقير. الله يعطى من يشاء بغير حساب، الأرزاق من عند الله.
ولم يقبل عقلى الطفولى أبدًا هذا الظلم المنسوب إلى الله، لأن «الله هو العدل الذى عرفوه بالعقل»، كما قالت جدتى، ولم يكف عقلى منذ الطفولة عن التساؤل: كيف يمكن أن يكون ربنا ظالمًا للفقراء والنساء ومنهم أنا وأمى وأخواتى البنات؟ وهو سؤال يراود كل الأطفال بالذكاء الفطرى.

فى الطفولة يعيش الأطفال الوحدة الطبيعية بين الجسم والعقل والروح والكون، والناس من حولهم، مثل طبيعة الحياة الأولى فى الحضارات الإنسانية القديمة قبل نشوء العبودية.
لم تكن طفولة المجتمعات الإنسانية همجية قائمة على الحرب والقتل والاغتصاب كما تصورها أغلب المؤرخين. الحضارات القديمة فى مصر وبابل وفارس والهند والصين وغيرها، كانت الفلسفة فيها قائمة على هذه الوحدة. وحدة الوجود بكل ما فيه من كائنات حية منها الإنسان.
لم يكن الإنسان هو الرجل فقط بل الرجل والمرأة، والآلهة أيضًا كانت إناثًا وذكورًا، قوة الطبيعة الكبرى هى الآلهة الأم، ثم حدث الانقسام مع التطور الاجتماعى والسياسى الذى أرسى الفلسفة العبودية، التى قسمت الكون إلى أرض وسماء. والإنسان إلى جسد وروح. والمجتمع إلى أسياد وعبيد، واندرجت النساء مع العبيد.
حدث ذلك تدريجيًا عند تغيير المجتمع من نظام أمومى إلى نظام أبوى فى مصر القديمة مثلا لم تفقد الأم مكانتها فى الحياة الدينية أو السياسية كما حدث بعد استقرار النظام الأبوى وأصبح إله سماوى واحد هو الأب الذكر للبشرية جمعاء.
ونتج عن ذلك أن أصبح آدم هو أصل البشر وحواء هى فرع منه «ضلع أعوج». بعبارة أخرى لقد ولد الذكر الأنثى وليس العكس وحمل الناس اسم بنى آدم فقط وليس بنى وبنات حواء وآدم. ظهر اسم حواء فى كتاب العهد القديم كسبب الخطيئة والشر والعصيان لأنها مدت يدها «عقلها» إلى شجرة المعرفة.
وفى القرآن لم يرد اسم حواء على الإطلاق إلا كزوجة لآدم وهما الاثنان أكلا «بالمثنى» من الشجرة «لم يرد اسم الشجرة» لكن آدم وحده «بالمفرد» تلقى كلمات من ربه فتاب عليه، وعلم الله آدم الأسماء «بالمفرد».
منذ نشوء النظام العبودى تغيرت الفلسفة واللغة والدين والسياسة والأخلاق لتصبح الذكورة هى الأصل وبدأ نظام جديد قائم على تقسيم العمل على أساس النوع والجنس.فرض على المرأة الأعمال الجسدية «والعبيد» باعتبار أنها جسد بلا عقل، وأصبح العمل الفكرى «الفلسفة» يخص الرجال فقط من الطبقات إلا فى مصر القديمة كانت «نوت» هى إلهة السماء وزوجها «جيب» هو إله الأرض. كانت البنت ترث الأم على العرش: الأم الابنة الأب «الثالوث القديم» يتغير المجتمع وفى فترة الانتقال التدريجى تصاعد الأب من إله الأرض إلى إله السماء وهبطت الأم لتصبح إله الأرض والخصوبة والولادة وتغير الثالوث إلى الأب الابن الروح القدس، ترمز الروح القدس إلى الأم التى فقدت اسمها وأصبحت تنسب إلى الرجل زوجها أو ابنها الذكر.
كانت الفلسفة الطبيعية الأمومية الأولى تقوم على الوحدة الكلية للحياة وعلى التعاون والعدالة والرحمة والمحبة ومع انقسام المجتمع العبودى بدأت فلسفة القوة وسيطرة الأب الإله الحاكم الذى يستمد سلطانه من قداسة الألوهية وليس من العدل والرحمة وقد قاومت نوت إله السماء هذه الفلسفة، ومن وصيتها إلى ابنتها إيزيس «لا أوصى ابنتى التى سترث العرش من بعدى أن تكون إله لشعبها تستمد سلطتها من قداسة الإلوهية بل أوصيها أن تكون حاكمة رحيمة عادلة« (مصر القديمة ٤٩٨٨ قبل الميلاد) كانت فلسفة العدل والرحمة لا تزال تقاوم فلسفة القوة الصاعدة القائمة على الأموال والسلطة المطلقة للذكور فى الدولة والبيت.
ومن فلاسفة العدل والرحمة كان «بتاح- حتب» المصرى الذى كتب يقول: عش فى بيت المودة واملأ قلبك بالرحمة أثمن من امتلاء خزائنك بالذهب، وكانت إيزيس ترمز إلى الحكمة وأختها ماعت ترمز إلى العدل، كانت إيزيس إلهة الحياة والنور «المعرفة» ترسم بقرص الشمس فوق رأسها إلا أنه مع تغير النظام إلى السلطة الأبوية المطلقة أصبح أوزوريس زوج إيزيس هو صاحب الحكمة وابنه حورس الذكر هو وريث العرش وليس الابنة التى كانت ترث العرش من الأم.

فى مصر القديمة بدأت الفلسفة العبودية التى قامت على الأب أبوالإنسانية جمعاء الذى يرثه ابنه. أصبح أوزوريس الإله السماوى الذى يصارع الخير والشر ومن بعده ابنه حورس الذى حارب إله الشر ست الذى قتل أخاه أوزوريس ربما كان «أبوور» أول فيلسوف اجتماعى فى مصر القديمة الذى قاوم الفكر العبودى الدينى وكان دائم البحث عن الإله السماوى دون جدوى وتنبأ بالمهدى المنتظر.
كانت أرواح الموتى يوم الحشر «القيامة» تقرأ كتاب الموتى الذى هو إقرار منهم أنهم لم يخالفوا وصايا الإله فرعون الحاكم فى السماء والأرض، يقول الميت ما يلى: لك المجد أيها الإله العظيم إله الحق والعدل أنا لم أرتكب معصية أو منكرًا يغضبك لم أغش فى مكيال أو ميزان أنا طاهر طاهر.
تأثر أخناتون ونفرتيتى بكتاب طيبة عن الموتى لكنهما لم يأخذا منه إلا الأمانة فى التعامل مع الناس وتركا الجزء الاستبدادى الأبوى ربما لأنهما كان يعملان معا تحت إرشاد الأم «تى» أم أخناتون.
بدأ أخناتون ونفرتيتى «وتى الأم» ثورة سياسية ودينية وأخلاقية واجتماعية فى مصر من أجل إعادة قيم العدالة والرحمة والوحدة والإنسانية القديمة جاءت صورة أخناتون بجسم يشبه الأنثى أكثر من الذكر ورسم على شكل إله واحد إنسانى عادل تطل سماؤه من فوق جسم الأرض حانية مثل الأم، وتطل شمسه وضياؤه على الظلام بنور الحق والمعرفة، وفى الصورة السابقة لإيزيس، التى كانت تحمل قرص الشمس فوق رأسها وتنشر نور الحكمة والمعرفة على الجميع دون تفرقة، لم يكن تعدد الآلهة الإناث والذكور سببًا فى أن تحجب الشمس ضوءها أو تفرق بين البشر وكلهم عندها سواسية.
كانت أناشيد إيزيس وأوزوريس ونفرتيتى وأخناتون «وأمه تى» تتجه إلى آلهة السماء والحكمة ومن أناشيد مصر القديمة فى عصر إيزيس:
يا إيزيس يا مصدر النور والضياء
يا خالقة الزرع فى الأرض
يا من تخرج الحياة من رحمها
كما يخرج الجنين الطير من بيضته
أنت أم كل شىء حى
أنت حياة العالم
أنت الأم الكبرى للكون
تغير هذا النشيد مع تغير المجتمع المصرى إلى النظام الطبقى الأبوى اختفت جهود الأم تى والزوجة نفرتيتى، وأصبح أخناتون وحده صاحب الفلسفة والمعرفة والأناشيد.
أخذ موسى نبى الشعب اليهودى بعض أناشيد أخناتون وجعلها أساس فلسفته اليهودية، وأخذ اسم حواء من الحياة باعتبارها أم كل شىء حى، كما جاء فى كتاب موسى «التوراة» ثم هوى بها إلى الخطيئة حتى لا تنافس الإله الجديد الأب، فكرة الإله السماوى الواحد أخذها موسى عن أخناتون، ومن أقوال أخناتون «فى مصر يكون النيل تحت أبصار الجميع لكن هناك نيل آخر فى السماء من الماء الحى لجميع الغرباء فى الأقطار الأخرى».
وقال أخناتون أيضًا: «إله على ضفتى نهر الحياة فى السماء توجد قصور يسكن فيها الله لأن قلب الإنسان هو مسكنه»، وأمر أخناتون بتحطيم تماثل جميع الإلهة السابقة عليه وأغلق معابدها وهجر المدينة «طيبة» الملكية «لأنها ظالمة ونجسة» وبنى عاصمة جديدة لمصر أطلق عليها اسم مدينة الله.
أليس هذا هو التغيير السياسى، وما يحدث دائمًا حين يأتى نبى جديد أو ملك أو رئيس دولة بأفكار جديدة؟
لكن الصراع دب بين الملك الجديد وكهنة الملوك السابقة وهزم أخناتون ونفرتيتى شر هزيمة وهدم الحكام الجدد تماثيلهما ومحوا كل آثارهما.

ورث «زرادشت» الصراع بين الجسد والروح وبين الخير والشر. قبل زرادشت كان «بيما» الذى انشغل بتفسير كلمة الله. أصبحت البداية هى كلمة «فى البَدء كانت الكلمة» تحولت الفلسفة إلى كلمات وطقوس تقدس الكلمة الاسم.
انفصلت الفلسفة عن السياسة والحركة الاجتماعية المناهضة للعبودية. كان ملك الملوك فى فارس ظالمًا مستبدًا مثل فرعون مصر له عيونه من الكهنة والجواسيس للكشف عن نيات العبيد فى قلوبهم الخفية.
قتل الملك بسهمه شابًا سقط قتيلًا على الفور. ثم سأل والد الشاب المسكين عن رأيه فركع العبد على الأرض ساجدًا ممرغًا جبينه فى التراب بين قدمى الملك، وقال: حكمتك يا رب يا ملك الملوك التى لا تعلوها حكمة ورمايتك السديدة التى لا تعلوها رماية!
وكان الملك ينوى قتله أيضًا لأنه أنجب ولدًا عاصيًا لكنه عفا عنه لأنه عبد مؤمن.
كان الاتهام بالكفر أو عدم الإيمان بحكمة الإله الملك عقابها الموت، وهى تهمة سادت منذ العبودية حتى اليوم فى بلاد متعددة شرقًا وغربًا، وقد لعبت هذه التهمة دورًا على مدى العصور فى فصل الفلسفة عن الدين وتجميد الفكر الفلسفى القديم والمعاصر الحديث داخل قوالب تكرر نفسها عصرًا بعد عصر، وتجدد إيمانها بالدين السائد فى ذلك المجتمع والذى هو دين الدولة ينص عليه الدستور، وإن لم ينص عليه الدستور أو إن تم الفصل بين الدين والدولة، إلا أن تهمة الكفر أو الإلحاد أو التمرد على السلطة ظلت تفزع الفلاسفة والعلماء فى كل عصر حتى عصرنا هذا.
انتشرت المعجزات الإلهية التى تسبق مولد النبى أو الفيلسوف أو الزعيم الروحى، فى فارس مثلًا شاعت أساطير عن مولد زرادشت وقالوا «إن إله النور استمع إلى شكاوى شعبه المظلومين فأرسل إليهم رسولا رجلا قويا يكون خلاصهم من الظلم على يديه».
وأيضًا هذه الأسطورة، دخل زرادشت جسد أمه «تلاحم عقل الابن بجسد الأم» وكانت سيدة من الأشراف تظهر له على هيئة وميض من البرق واستمد من أمه رسالته فى الحياة أن «يجلب النور لأبناء الظلام».
تكررت هذه الأسطورة فى حياة أغلب الأنبياء، فالأم المرأة هى التى تهدى ابنها النبى إلى المعرفة، أغلب الأنبياء والفلاسفة لم يكن لهم أب أو لم نسمع شيئا عن آبائهم وكانت الأم هى التى أخذوا عنها المعرفة، وهى التى حمتهم من القتل على يد السلطة الحاكمة القائمة حينئذ، ومن حمى النبى موسى من بطش فرعون إلا أمه، ومن حمى عيسى المسيح إلا أمه مريم؟ والسيدة خديجة حمت النبى محمد من بطش قريش.
ما إن ولدت أمه حتى خرج زرادشت ضاحكًا فى المهد فهرولت أرواح الشر «التى كانت تحيط بجسد أمه» هاربة فى فزع، وتهللت الطبيعة كلها بالفرح والنور وترنمت الأشجار والأنهار والرياح بالنشيد العام الجامع، ورضع الشجاعة والحكمة من أمه مع حب العدل والرحمة.
فى مهده تكلم عيسى المسيح الكلام مثل الضحك تعبير عن النفس وانتشر النور وتنبأت أم الرسول محمد وهى حامل به أنه سيكون نبيًا لأنها رأت النور، أما زوجته السيدة خديجة فهى التى طمأنته حين كان ينتفض قائلًا دثرونى دثرونى، دثرته ثم قالت له انهض بلغ رسالة الله.
كادت الأرواح الشريرة أن تقتل زرادشت لولا قوة أمه وحمايتها له، كما كاد أعداء عيسى أن يقتلوه لولا أمه السيدة مريم، وكانت السيدة خاديجة زوجة النبى محمد تكبره بعشرين عامًا، بمثابة الأم له، تمنع عنه أذى قريش وهى من أشراف قريش الأثرياء، يخافون قوتها وبأس عشيرتها.
لولا عناية الأم ورعايتها ربما هلك أكثر الفلاسفة والأنبياء، وقد كان لقلب الأم وروحها وعقلها تأثير كبير فى غرس القيم الإنسانية العليا كالعدالة والرحمة فى عقول وقلوب هؤلاء الفلاسفة والأنبياء الذين رغم اختلافاتهم الدينية والفلسفية فقد كان حلمهم واحدًا أن يسود العدل بدل الظلم، أن تتوحد الإنسانية فى ظل العدالة والحرية والحب والسلام وأن تنتهى الفروق بين البشر وقد رمزوا لهذه الوحدة الإنسانية الكونية أو العالمية باسم الله أو المثل الأعلى أو الضمير.
إلا أن الظلم والحرب والعبودية هى التى سادت وبأشكال مختلفة متطورة حتى اليوم.
حينما سأل زرادشت نفسه: ما حكمة الله فى وجود الشر والظلم والحرب؟
بدأ يشك فى عدالة الله وحكمته ووجوده، وكتب كتابه «أفستا» (تفسير الحكمة) حاول فيه البحث عن الله حتى وجده فيما سماه الوطن الواحد لكل الإنسانية وعرف الله بأنه العدل الاجتماعى والتعاون والمساواة والمحبة والإخاء، وقال لو إنك عرفت الحق عرفت الله، الله هو العدل.
وهذا هو تعريفه «لله» الذى لا يختلف عن تعريف جدتى الفلاحة فى مصر التى سمعتها وأنا فى السادسة من العمر تقول «ربنا هو العدل، عرفوه بالعقل» تأثر فلاسفة اليونان القديم والغرب الحديث بالفلسفة المصرية والفارسية والهندية والصينية القديمة، مثلما تأثر بها الأنبياء، بل إن الأساطير القديمة والقصص انتقلت عبر التجارة والسفر من الكتب الفلسفية إلى الكتب الدينية فقد تكررت أسطورة حواء وآدم بأشكال مختلفة.
فى فارس مثلًا خلق الإله «أهورا مازدا» امرأة ورجلا من الطين وأسكنهما حديقة الزوجين الشريفة «الجنة باللغة الفارسية»، واشتغل الزوجان معًا متعاونين بحب كل منهما الآخر، ويخدم كل منهم الآخر دون سيطرة من أحد على الآخر. كانا يسيران وفق قانون العدالة والتعاون والحب القديم، ثم توفى الزوجان ودب الخلاف بين ذريتهما الذكور والإناث.
تسلط الذكور وتنافسوا على الحكم والميراث، ونسوا قانون العدالة والتعاون وعاقبهم «أهورا مازدا» بطوفان من الجليد الذائب «يشبه طوفان نوح»، فأغرقهم جميعًا، إلا قلة من الذكور والإناث المتمسكة بالعدل والتعاون، حاول أن يشكل منهم فصيلة جديدة من البشر الأرقى أو الأكثر عدالة وتعاونًا.
وهكذا استمر الإله «أهورا مازدا» فى تجاربه بهذا الطين البشرى، من أجل تطوير الجنس البشرى إلى الأفضل أو الأكثر عدالة وتعاونًا مع الآخرين.
إنها رحلة الفلاسفة والعلماء المستمرة نحو التغيير إلى عالم إنسانى أفضل، وهى رحلة المادة من صورتها الأولى «الأميبا» عبر أشكالها وفصائلها المختلفة، للوصول إلى الإنسان العادل الرحيم عند الفلاسفة الماديين والمثاليين أو الله «عند المؤمنين بالأديان».
كان الصراع يدور بين «أهورا مازدا»، يعنى النور أو إله الخير وأهريمان إله الشر والظلام، الشيطان، هذا الصراع الذى بدأته الفلسفة العبودية.
وهو صراع عقيم لا نهائى، لأنه صراع غير طبيعى، صراع ضد وحدة الوجود. فالظلام والنور موجودان ولا يمكن فصل الليل عن النهار، أو الجسد عن العقل أو المادة عن الروح الطاقة المشعة من المادة، وهى طاقة قد تكون غير مرئية مثل قوة الكهرباء أو القوى الذرية والنووية وغيرها من أنواع الطاقة.
وقد أدت الاكتشافات العلمية إلى تطور الفلسفة والفكر، كما أدى التفكير الفلسفى المتحرر «من سجن الخوف من بطش السلطة» إلى آفاق علمية أكبر.
لم يختلف فكر بوذا كثيرا عن مقولة جدتى الفلاحة «ربنا هو العدل عرفوه بالعقل» ولم يعتبر نفسه رسولا من عند الله بل مكتشف لقانون اجتماعى طبيعى يجلب السعادة لمن يسعى نحو العدل والإنسانية والرحمة والمحبة.
وهو المبدأ الذى أخذه عنه القديس بول فى الإصحاح ١٣ من رسالة القديس بولس الأول إلى أهل كورنثوس قال بوذا كما تحمى الأم طفلها الوحيد من الأذى مثلما تحمى حياتها لتكن أنت مثل الأم فى حبها الشامل الذى يضم الكون كله، حب لا تشوبه شائبة من الكراهية.

يمكن القول إن فلسفة نفرتيتى وإخناتون التوحيدية مهّدت لفلسفة الأنبياء من بعده، موسى وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد، ولعبت الأديان التوحيدية الثلاث الكبرى بمذاهبها المختلفة المتشعبة دورًا فى الثورات والتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، فى القارات الخمس، وفى تثبيت النظام الطبقى الأبوى على مقدسات وثوابت دينية، وعلى نصوص إلهية أصبحت هى مصدرًا لدساتير الدول وقوانينها وقيمها فى الشرق والغرب.
لعبت الكتب الدينية الثلاث: التوراة، الإنجيل، القرآن دورًا كبيرًا فى هذه التغيرات، بعضها أدى إلى محاربة الرق والعبودية، تحت فكرة: العبودية لله فقط وليست لأى حاكم من البشر.
رغم بعض النصوص الدينية التى أبقت على الرق، فيما يتعلق بأسرى الحرب من النساء والرجال، وإباحة امتلاك العبيد والإماء والجوارى، إلا أن الثورات الشعبية من العبيد والفقراء والنساء، والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية أدت إلى تجميد هذه النصوص، وإبطال العمل بها، لعب الفلاسفة والمفكرون من الرجال والنساء، فى الشرق والغرب، دورًا فى القضاء على الرق وبقايا الفكر العبودى.
إلا أن النظم الحاكمة كانت «ولا تزال» تتمسك بالنصوص والثوابت التى تحافظ على مصالحها ومكاسبها وعبيدها وجواريها، وتشترى الفلاسفة ورجال الدين الذين يبررون الاستبداد والحرب وقهر الناس والإجراء، تحت اسم الدين.
أصبحت كلمة «الدين» أو «حكم الله» سيفًا مسلطًا على أعناق الداعين والداعيات للتحرير الإنسانى وتحقيق العدالة والحرية للجميع بصرف النظر عن الجنس أو النوع أو الطبقة أو اللون أو غيرها، هذه القيم الإنسانية العليا التى دعى إليها الفلاسفة والأنبياء من الرجال النساء، من إيزيس وأوزورويس ونفرتيتى وأخناتون إلى موسى وبوذا وكونفوشيوس وعيسى ومحمد، ومن سقراط وأرسطو وأبيقور إلى ابن سينا وابن خلدون وابن رشد، وغيرهم.
إلا أن الصراع الدموى استمر حتى يومنا هذا من أجل المكاسب الاقتصادية والمادية تحت غطاء اليهودية أو المسيحية أو الإسلام.
وقد تعرض الأنبياء للقتل بمثل ما تعرض له كثير من الفلاسفة والمفكرين من الرجال والنساء، الذين حاربوا العبودية والتفرقة بين البشر.
وقد وقع كثير من الفلاسفة والقديسين فى التناقش والازدواجية أو الثنائيات العبودية التى وردت فى الكتب الدينية، منها التناقش بين الخير والشر، الإنسان والله، الأبيض والأسود، السيد والعبد، الرجل والمرأة، الجسد والعقل، المادة والروح.