رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نصر حامد أبوزيد يكتب: أزمة الفكر الديني المعاصر «١»

نصر حامد أبوزيد
نصر حامد أبوزيد

- خطاب الدعاة الجدد يزّيف الواقع والتاريخ معًا وهو بعيد عن التعقيدات الفقهية
- نظام التعليم التلقينى أدى إلى خلق كوادر من الشباب تتقبل دون تردد صيغة التدين السلفى المتشدد


الخطاب الدينى المعاصر، خاصة فى شكله الإعلامى فى الفضائيات، خطاب مسكون بمخاوف عديدة: هناك الفزع من تفكيك الثوابت. وهناك الفزع على قداسة النصوص الدينية من محاولات البعض تأويلها تأويلًا عقلانيًا. وهناك الخوف من أن يصير العالم الإسلامى، مثل أوروبا، فى حرياتها التى بلا ضوابط ولا روادع، وفى سلوك نسائها المتبرجات المنحلات. وهناك فوق ذلك كله خشية على المرأة المسلمة أن تنجرف فى هذا السيل، فتسترجل، وتفقد أنوثتها وجمالها الذى جعله الله راحة للرجل ومرفأ. وهذا الإشفاق على المرأة هو إشفاق على النشء، الذى وُكِّل أمرُ تربيته للمرأة. إنّها «الأسرة» التى يحميها الخطاب الدينى بدعوته لحماية المرأة من مغريات الانحلال والانحطاط فى الغرب.

تكمن المفارقة فى أن كل هذه المخاوف ترتبط بمخاوف من نوع آخر هو الخوف من الإرهاب الذى يشارك الخطاب الدينى نفس المنطلقات الفكرية، ولكنه يسعى للتخلص من مسببات المخاوف السابقة كلها بالبتر والقتل. الخوف من الإرهاب يضع الخطاب الدينى فى محنة حقيقية: فالإرهاب يقوم بعمل تطهيرى نبيل المقصد، لكنه لا يميّز فى عماه – هكذا يقول بعض الدعاة – بين الحقّ والباطل. من هنا الدعوة إلى عودة الأبناء الذين ضلّوا طريق الحقّ والصواب، ومن هنا الترحيب بالمراجعات والتوبة وعودة «الابن الضالّ» – الإرهاب – إلى حضن أبيه.
الخوف الآخر الملتبس هو خوف «العولمة»: لا بأس من الاندماج فى اقتصاديات السوق: إنها تجلب الرخاء؛ فالنبى عليه السلام كان تاجرًا، وقد أحلّ الله البيع وحرّم الربا. لهذا تنشأ بنوك لا تتعامل بالرّبا – البنوك الإسلامية – يباركها الخطاب الدينى ويشجّع المسلم على التعامل معها تجنّبًا لحرام بنوك «العولمة». لكنّ المشكلة أن هذه البنوك الإسلامية تتعامل فى سوق المال – سوق العولمة – الذى لا يخضع لمعايير الحرام والحلال، فما هو الحلّ؟ فى الحلّ تكمن الأزمة: تغيير الأسماء يحلِّلُ المحرّم، أى أنّ الحرمة لا تكمن فى المسمى، بل فى الاسم. وهذه حيلة لها جذور تاريخية فى «الحيل الفقهية»، وهو موضوع يحتاج لبحث مستقل.
الخطاب الدينى الرائج والسائد، خاصة فى الفضائيات، يستخدم أرقى المنتوجات التقنية للحداثة فى ترويج مقولاته، ولكنه مسكون بالفزع من الأفكار والفلسفات الحديثة، التى لولاها لما تم إنتاج هذه التقنيات. المشكلة تكمن فى الواقع الاجتماعى – الذى يتحرك فيه هذا الخطاب ويأمل التأثير فيه – الذى استوعب كثيرًا من منجزات الثقافة الغربية، خاصة فى جانبها التقنى العملى، دون «الفكر» الذى أنجز التقدم العلمى، المسئول عن التقدم التقنى الذى قلب حياة الإنسان – ولا يزال – رأسًا على عقب.
فى طفولتى كان التليفون أعجوبة الأعاجيب. التليفون الوحيد فى القرية كان موجودًا فى مكتب عمدة القرية. ثم شاهدت قريتى الراديو، فكان أعجب، ثم التليفزيون فى الستينيات، فكان أعجب وأعجب. ثم الفاكس، الذى كان ثورة مدهشة، ثم البريد الإلكترونى، والإنترنت والفضائيات. ما أعجب الإنسان، وما أروعه، وما أخطره: حربان عالميتان، وهولوكوست، وحروب أهلية فى كل مكان، لأسباب عرقية ودينية، ثم أخيرًا «الإرهاب» بقوّته الشيطانية المدمّرة ووجهه الخفىّ.
لبسنا قشرة الحداثة بالكامل، ولن أقول ما قاله نزار قبانى «والروح جاهلية»، بل أكتفى بالقول والروح ماضوية. صارت الحياة فى شكلها المادى، فى أىّ عاصمة عربية، لا تختلف كثيرًا عن شكل الحياة فى عواصم العالم المتقدّم، وإن تخلّفت عنها فى الانضباط والدقة، وربما فى النظافة. الفكر الإسلامى الراهن، فى أرقى تعبيراته الفلسفية، لا يرى فى الحضارة الغربية سوى التقدّم المادى، وينعى عليها كلّ السلبيات التى ذكرتها فى المقدمة، معتبرًا أنّ منشأ هذه السلبيات غياب الدين، الذى هو ما تتميّز به حضارتنا. هذا المنطق يسمح باستيراد التقنيات، معزولة عن أساسها العلمىّ، الذى ما كان يمكن أن يتحقّق قبل ثورة الإصلاح الدينى.
الآن، ومع ظاهرة الدعاة الجدد، التى تزعج المؤسّسة الدينية أيما إزعاج، نحن إزاء خطاب ذى وجهين: وجه يبرّر للأثرياء متعة النعم التى مَنّ الله بها عليهم – صار الثراء نعمة بصرف النظر عن مصدره – طالما أنهم يعطفون على الفقراء والمحتاجين ويؤدّون حقّ الله فى المال. نصيب الزكاة الشرعية ٢.٥٪، لا ذكر للضرائب على الدخل لأن ذلك موضوع ينتمى للقانون الوضعى والعياذ بالله. الوجه الثانى: أداء حق الله من صلاة وزكاة وصيام وحج، التشريعات العبادية. لذلك ليس للدعاة الجدد باع فى المعاملات، والتعقيدات الفقهية والتشريعية. إنه خطاب بسيط واضح سهل الفهم سهل الهضم، فى لغة عصرية متخلصة من المصطلحات المعقدة، كما تخلّص ممثّلوه من الزىّ التقليدى للشيوخ واستبدلوا به الزى العصرى. هذا الخطاب، بكلّ هذه المزايا التى تسحب البساط من تحت أقدام رجال الدين التقليديين، يزيّف الواقع ويزيّف التاريخ معًا. هكذا تتعقد الأزمة.

ظاهرة التكفير
تنامى ظاهرة «التكفير» واستفحالها يعنى – وهذه مفارقة ساخرة – أنها تفقد خطورتها. تنامى ظاهرة مصادرة الكتب، واللوحات، والأغانى، وإغلاق الصحف والمجلات، نكتة غير مضحكة فى عصر الإنترنت والسماوات المفتوحة. كل هذا يعنى أن الظاهرة تتفكّك، وهذا ما يفسّر حالة «الهياج» و«السعار» فى دوائر مرتزقة الفضائيات. لكن يجب أيضًا أن أنبّه إلى الظاهرة المقابلة – ولا أقول النقيضة – وهى صراخ مدّعى الحداثة فى نفس الفضائيات.
مسألة نطقى الشهادة فى أول محاضرة ألقيتها بعد رحيلى عن مصر عام ١٩٩٥ كان المقصود منها توصيل رسالة إلى الجمهور الغربى بأنّنى لست ضد الإسلام كما قد يتوهم البعض. قلت: إذا كنتم تحسنون استقبالى وتحتفلون بى ظنّا منكم أننى أنقد الإسلام من منظور المرتدّ فقد أخطأتم العنوان، ثم نطقت الشهادة. كنت أخشى من الاستقبال الخاطئ نتيجة الحكم الجائر الذى صدر ضدى أنا وزوجتى - يقصد حكم التفريق بينه وبين زوجته - ذلك أن كثيرًا من الذين اضطرّتهم ظروف شبيهة للهجرة للغرب استثمروا هذه الظروف أسوأ استثمار بأن تحولوا كارهين – وليسوا ناقدين – لثقافتهم. لهذا رفضت اللجوء السياسى، وأفخر أننى لا أزال أحمل جنسيتى المصرية وحدها. أؤكّد ليس هذا تقليلًا من شأن من تضطرهم ظروفهم ازدواج الجنسية، لكنّ حرصى منشأه تأكيد حقيقة أنّنى باحث ومن شأن الباحث أن يكون ناقدًا للثقافة التى ينتمى إليها. الانتماء لا يعنى عدم النقد.

الشعبى والشعبوى
القاعدة الشعبية للدين – ما يسمى بالدين الشعبى العفوى – تمّ تجريفها تجريفًا تامًا، منذ بدأ الإصلاحيون يصبون جام غضبهم على هذا التدين، واصمين إياه بالوثنية. بدلًا من تفهّم هذا التدين الشعبى، وبدلًا من محاولة ترشيده، شارك فى هذا الاحتقار للتدين الشعبى كلّ المثقفين من «الخاصة». كان هذا الاحتقار والتحقير شارة أن تكون «متعلما» أو «مثقفا». هذا أدّى، مع انتشار نظام التعليم التلقينى، إلى خلق كوادر من الشباب، تتقبل دون تردّد صيغة التديّن السلفىّ المتشدّد، المعادى لتسامح وأريحية التدين الشعبى، المُشبَّع بالروحانية والأخلاقية، ومسئولية التضامن الاجتماعى. صارت هذه الكوادر من الشباب نصف المتعلم/نصف الأمى، الأرضية الخصبة لدعوة الإخوان المسلمين فى الثلاثينيات من القرن الماضى، وهى لا تزال الأرض الخصبة لانتشار فكر التطرّف.
ما هو شائع الآن، هو ذلك التديّن الشعبوىّ خاوى الوفاض من العمق الروحىّ والأخلاقى، الذى خبرناه فى تديّن آبائنا وأمّهاتنا، فى الأربعينيات والخمسينيات، وشطر من الستينيات فى القرن الماضى. «القاعدة الشعبية» الآن تخاصم العقل. تحتاج الأرض – القاعدة – إلى حرث لكى تتعرّض من جديد للشمس والهواء فتستردّ خصوبتها، التى جرَّفتها الأمراض، التى سردت بعضها فيما سبق. أنتفق مع «كانط» بأنه لا تغيير حقيقيًا مستدامًا يمكن تحقيقه من أعلى، لا بدّ من تثوير وعى القاعدة، فهى وحدها صاحبة المصلحة فى التغيير وصاحبة الحقّ فى حمايته.