رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أوراق الخرباوي: تمنيت أن أرى الله فى الجنة ‏فوجدت السادات!‏

جريدة الدستور

فى عام ١٩٧٢ وبمسجد قريب من بيتنا بمنطقة الزيتون، استمعت إلى درس دينى من الشيخ عبداللطيف مشتهرى، رئيس الجمعية الشرعية فيما بعد، وقد كان هذا الشيخ ‏على صلة بأبى رحمهما الله، إذ كان شرقاويًا مثلنا ويسكن قريبًا منا، وسبق أن ذهبتُ مع أبى إلى بيته فى زيارة لتوثيق التعارف.‏


الحق أن هذه المنطقة كانت تجمع عددًا من الشيوخ «الشراقوة»، منهم الدكتور عبدالحليم محمود، شيخ الأزهر الأسبق، والشيخ محمد حسن فايد، رئيس جامعة الأزهر الأسبق، رحمة الله عليهم ‏جميعًا، لذلك كانت فرحتى كبيرة عندما رأيتُ الشيخ الذى كنت أجلس معه فى بيته منذ أيام وهو يُلقى درسًا فى المسجد، حتى إننى كنت أنظر إلى المصلين وهم جلوس أكاد أقول لهم: «أنا أعرف هذا ‏الشيخ».‏
كان الدرس عن الجنة، وقد وصف الشيخُ الجنة وصفًا دقيقًا وكأنه رآها من قبل، حتى أبواب الجنة وأنهارها وأشجارها وقصورها ودرجاتها، وكلما ارتفعنا درجة زاد نعيمنا إلى أن نصل إلى النعيم ‏الأكبر وهو رؤية الله سبحانه، وهنا زاد انتباهى للدرس، الشيخ يتحدث عن أمنيتى التى سيطرت على فؤادى، ولكن أحقٌ هذا؟! هل سنرى الله فى الجنة؟! كادت أمنيتى تتبخر فى سماء المسجد عندما ‏قال أحد الجالسين بصوت جهورى: ربنا قال «لا تدركه الأبصار» يا مولانا، محدش يقدر يشوف رب العزة، فابتسم الشيخ وهو يقول بلكنة الشراقوة: وبرضك قال يا شيخ «وجوه يومئذ ناضرة إلى ‏ربها ناظرة» وهنا عاد لى الأمل فى رؤية الله، ولكن هذا الرجل اللجوج أصر على أن يقضى على أمنيتى فاستمر فى الجدل وهو يقول للشيخ بصوته الجهورى: قال «إلى ربها ناظرة» يا مولانا، ما ‏قالشى إلى الله ناظرة، وكل إشى له فى الدنيا رب، «الوجوه دى يا مولانا هاتشوف أربابها اللى كانت فى الدنيا، زى رب العمل، أو رب الأسرة، أو رب البلاد» وهنا تدخل أحد المصلين معترضًا: ‏إنت جاى تشوشر على الشيخ ولا إيه، لهو إحنا ها نروح الجنة علشان نبص لرب العمل ولا السادات رب البلاد!! ضحك المصلون ولكن الشيخ مشتهرى رد قائلًا: يا أخى كان ممكن كلامك يكون له ‏وجاهة لو قال الله: إلى أربابها ناظرة، ولكنه قال إلى ربها، ولا يوجد لنا رب ونحن فى الجنة إلا رب العزة.‏
كان هذا الدرس من الدروس التى سيطرت على مشاعرى، وكأن قلبى كان يتحرك ويخفق مع حركة الشيخ ولفتاته، فقد كان مثل الساحر الهندى الذى يعزف على الناى فيجمع الناس حوله، وما أن ‏يجتمع الناس حتى يضع سلة الأفاعى على الأرض، ثم يضرب رأس الأفعى النائمة كى يوقظها، فيكون العمل الأول للساحر هنا هو رأس الأفعى التى تنتبه وتتأهب، فيمسك الساحر بالناى ويأخذ ‏بالعزف عليه، وحينما يعزف يتراقص بجسده يمينًا ويسارًا، فتتحرك الأفعى مع حركته، فيظن الناس أنها ترقص طربًا فى حين أنها صمَّاء من الأصل لا تعرف الناى ولا تسمع لحنه ولكنها تتابع ‏بجسدها حركة الساحر، هكذا كانت قلوبنا.‏
وكم كانت ليلة ليلاء قضيتها فى غم وهم، فقد اكتشفت أننى أحببت الجنة جدًا، فالأوصاف التى وصفها الشيخ لها جعلتها شاخصة أمام بصرى بأنهارها وأشجارها وثمارها وقصورها، ثم أعمل ‏الخيال أفاعيله معى وأنا المراهق الصغير الذى وصف له الشيخ «الحور العين» وجمالهن الذى ليس له نظير فأحببتهن أيضًا إلا أننى لم أحب الله، فالشيخ لم يستطع أن يصفه لى لأحبه، وكيف لذلك ‏الغلام أن يحب ما لا يراه، صاحب ذلك شعورٌ اجتاحنى بتأنيب الضمير، فقد أصبحت آثمًا، إذ كيف أحب الجنة ولا أحب من خلقها؟! إلى أن جلستُ مع من وصف لى الله وصفًا دقيقًا!.‏