رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بابا حسين عشري.. قصة ظهور «مُدعى النبوة» فى سجن مزرعة طرة

جريدة الدستور

- عشرى كان له أتباع يسمى كل منهم بأحد أسماء الصحابة
- مدرس يدعى أبوبكر كان الذراع اليمنى لـ«مدعى النبوة»
- المسجونون كانوا ينادون عشرى بـ«يا بابا»


الزنزانة قاحلة جرداء منزوعة من كل شىء اللهم إلا أربعة جدران صخرية.. وحين تجد نفسك وأنت محشور بين صخورها، ودموع الليل تنضح وجهك بالنار، لن تنسى أبدًا من كانوا حولك.. كلماتهم.. ضحكاتهم.. غلالات الحقد والغضب التى كانت تخرج من بعضهم.. الأمل المأمول الذى كانوا يتحدثون عنه، لذا ستثب بعيدًا، ولا تدون فقط ما دار بينك وبينهم، لكنك تبنى تصورات فاعلة بديلة تتخطى تلك الأخطاء المقيتة الساذجة، وتخرج من مفهوم الزنزانة المهيمن على نفسك، وتستعيد حريتك، وتهرب من ماضيك الأليم، وساعتها ستصبح حياتك المتناقضة خطًا واحدًا وليس اثنين، لذا كانت هذه الحلقات، التى أعكس فيها بمرايا مصغرة، صورة الرجال حولى فى تاريخى القديم، الذى لم يكن ساعتها قد انتهى بعد.

حين دخلت إلى الزنزانة فى مزرعة طرة، شاهدت أكثر من ٥ أفراد يقبلون يد أحدهم، ويقولون له (تفضل يا بابا).. تصورت أنه والدهم، أو كبيرهم، لكن لفت انتباهى أن من يقولون له ذلك أكبر منه سنًا.. ونمت ولم أشغل بالى، وفى اليوم التالى علمت أنه حسين عشرى، مدعى النبوة الشهير، الذى كان يسكن فى المنطقة المجاورة لمجلس الشعب.
رأيتهم يحيطون به ويقدسونه كأنما يقدسون نبيًا، فإذا قال لأحدهم أريد كوبًا من ماء تنافسوا جميعًا كى يقدموه له ويقولوا له خذ يا بابا، فيتناوله من أحدهم، ويقول له هات يا بلال أو يا عمر أو يا أبوبكر، فهو يلقب كل منهم باسم صحابى، اعتقادًا منه بتناسخ الأرواح وحلول أرواح الصحابة فى أجساد أتباعه.
كان أتباعه فى خارج السجن يرسلون له الطعام من الخارج، فهو لا يأكل (التعيين) الذى يقدم للسجناء، ولا ينام على الأرض مثلهم، ونجح أتباعه فى إقناع المأمور بأن يدخل له (سريرا).
فى يوم جلست مع (عم أحمد)، أحد أتباع حسين عشرى، فى الحديقة الخلفية لعنبر ٤، ورغم أنه كان يائسًا لأنه ترك الكويت وجاء مسرعًا لأن الساعة ستقوم، وسيظهر المهدى ليراه كل العالم فى وقت واحد، إلا أنه قال لى: إنهم يؤمنون بأن هناك تناسخًا لروح الأنبياء، وأن الساعة كما وردت بالقرآن هى المهدى المنتظر، مستدلًا بما ورد فى القرآن بسورة الأعراف (وَإِذْ تَأَذنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ)، وفسر (إلى يوم القيامة) باستمرار هذه الأرواح فى أجساد أخرى، حتى قيام الساعة، التى هى المهدى حسين عشرى.
كان عمرى ١٩ عامًا ونصف العام، لكننى كنت إمام (النبى) حسين عشرى فى الصلاة، وحين نسيت آية، لم أجد من يذكرنى بها، فسألته عقب الصلاة، ألست نبيًا؟! ألست أنت من أنزل عليك القرآن؟! لماذا لم تذكرنى بالآية؟!.
رمقنى بغضب، وقال:
«أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب».
عم أحمد، الذى كانوا ينادونه بأبى بكر الصديق، كان أستاذًا للغة العربية، وكان يقوم بتدريس النحو لنا جميعًا، وما حضرت حصة له إلا وسألت نفسى، كيف بهذا الرجل أن يتبع هذا المخبول؟!.. لكننى بعد فترة من الوقت علمت أن النساء اللاتى يحضرن لزيارتهم فى السجن هن سبب رئيسى فى ذلك.
قام الشيوعيون فى الزنزانة بتنظيم حلقة نقاشية، فعرض مدعّى النبوة أفكاره قائلًا:
«كل إنسان له ثلاث دورات فى الحياة والدورة الأخيرة هى قبل قيام الساعة حيث تجتمع كل الدورات».
قلت له:
«يعنى أبوجهل هيرجع تانى؟!».
«يا بنى كله رجع، والدليل على كده زيادة السكان فى العالم، والأيام الجايه هيشوف الجميع الساعة، أى المهدى المنتظر، يقول تعالى (ويسألونك عن الساعة)، أى المهدى، الذى هو الدورة الأخيرة لمحمد النبى، ألم يقل الله (إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) أى عودة، فالميعاد غير المعاد.
قال له أحدنا:
«عودة للحياة الآخرة وموش للحياة الدنيا مرة تانى».
رد بغضب:
«انت هتودى نفسك للهلاك والله هتروح فى داهية».
«أكتر من اللى أنا فيها».
كان حسين عشرى ذا أسلوب جذاب حلو يضحك على ضعاف القلوب وعوام الناس، وكان متشددًا لا يكف عن الدعوة لما هو محبوس بسببه، واستطاع بحنكته أن يضحك على مصباح، وهو شاب بورسعيدى مشهور بالفتونة متحفظ عليه لمدة عام، وقال له:
«القطة دى هى الدابة اللى هتخرج قبل قيام الساعة».
كان مصباح يجرى وراءها ويقول لها:
«موش أنت الدابة كلمينى».
رغم ما كان بيننا، إلا أن كل الأفكار بدأت تتلاشى، وتذوب فى بوتقة واحدة، هى التعايش والاحترام المتبادل، ورغم أننا كنا نتضايق من هؤلاء الذين يقبلون يد نبيهم، أو الذين يتبولون وهم واقفون ويحضرون معنا دروس النحو، التى يعطيها لنا عم أحمد، أو أبوبكر الصديق، الرجل الثانى، والذراع اليمنى لمدعى النبوة، فإذا جاء تطبيق القواعد النحوية على القرآن الكريم قاموا وتركونا، إلا أننى كنت أحترم هذا الآخر، إلا فى يوم قلت للرجل:
«ما تقوله ده كلام هبل وجنون».
قال:
«هتضيع نفسك».
«يعنى هدخل جهنم.. ليه أنت مصدق نفسك إنك نبى».
«طيب اسمع هاسألك سؤال لو جاوبت عليه يبقى أنت صح وأنا غلط».
«اسأل».
«فين سد يأجوج ومأجوج؟».
«حاجات فى علم الغيب».
«أنا بقى عارف وأقدر أقولك».
كلمة من هنا وكلمة من هناك حدثت المشكلة، وقررت أن أترك هذه الزنزانة.
لا أنكر أنى تعلمت كيف أختلف، وكيف أتعايش، وكيف أتعلم ثقافة الحوار، التى هى مثل ثقافة الشجاعة والرفض، وتعلمت أن الأمور من حولنا خطوط معقدة من الأفكار التى تحتاج للبحث والتعمق.