رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبد الشافي يكتب: الصعلوك الأعظم.. أوجاع عبدالحميد الديب فى شوارع القاهرة

أشرف عبد الشافي يكتب
أشرف عبد الشافي يكتب

فى إحدى المناسبات ذهب مع صديق له إلى قرية قريبة من القاهرة ليؤدى واجب العزاء فى أحد كبار المشايخ، وكان السرادق مكتظًا بأصحاب العمائم فوقف على دكة خشبية وخطب: «أيها الناس سمعت شيوخنا فى الأزهر يقولون: إذا مات عزيز لديكم فحلوا عمائمكم، فخيمّ الصمت على السرادق وحلّ الجميع العمائم واحدًا وراء الآخر، فقال: أعيدوها يرحمكم الله!، وهنا ثار المعزون وانهالوا عليه ضربًا وتكسيرًا وتعويرًا فلزم بيته شهرًا كاملًا لا يكف عن الضحك مع أصدقائه على هذا الحدث الجلل.

هكذا عاش عبدالحميد الديب (١٨٩٨ - ١٩٤٣) لا يهتم كثيرًا بعواقب ونتائج الفعل الذى يقدم عليه حتى وإن كان فعلًا مغايرًا ومخالفًا ومستفزًا، المهم أن يوافق هواه ومزاجه، فكثيرًا ما تم القبض عليه فى الشوارع وهو فى حالة سكر بيّن، وكلما دخل الزنزانة كتب قصيدة عنها، وكلما خرج أحب العودة ثانية، فإن لم يتم القبض عليه سكرانَ متسكعًا بملابس رثة، قرر مماطلة مالك الحجرة التى يسكنها فى الإيجار فلا يدفع، وكيف له أن يدفع ٨٠ جنيهًا فى غرفة يصفها بالمقبرة، ويكتب عنها عددًا كبيرًا من القصائد:
أفى حجرتى يارب أم أنا فى لحد
ألا أشد ما ألقى الزمن الوغد
تساكننى فيها الأفاعى جريئة
وفى جوها الأمراض تفتك أو تعدى
أرى النمل يخشى الناس إلا بأرضها
فأرجله أمضى من الصارم الهندى
تحملت فيها صبر أيوب فى الضنا
وذقت هزال الجوع أكثر من غاندى
لم يكن عبدالحميد الديب بائسًا من وجهة نظرى بقدر ما كان كوميديانًا عظيمًا ولطيفًا وظريفًا لا يقوى على أى عمل أكثر من التسكع وكتابة القصائد عن حياته التى اختارها لنفسه ليسجلها بهذا الشكل من خفة الدم والظرف والسخرية التى لم يسبقه إليها أحد، ولا أظن أن الذين كتبوا كل هذه المقالات عن الشاعر عبدالحميد الديب قرأوا أعماله الكاملة، فهم يقدمونه إلينا منذ سنوات طويلة باعتباره شاعر البؤس والألم والفقر والجوع، ويكاد كل كاتب منهم أن يتسول له جنيهًا أو رغيفًا من القارئ، وهذا أمر عجيب تجده فى تسعة وتسعين فى المائة من المقالات المنقولة من بعضها البعض، وعندما تستعرض أعماله الكاملة التى أصدرها المجلس الأعلى للثقافة بتحقيق ودراسة الأستاذ محمد رضوان وتقديم فاروق شوشة، تجده فكاهيًا من طراز خاص يحب الحياة وخمرها ونساءها، لكنه ناقم عليها أيضًا لأنها لم تنعم عليه بقصر فاخر وسيارات كاديلاك وأشجار وارفة كتلك التى تحيط بفيلات الجهلاء والأغبياء! هو يستحق هذا وأكثر، فإن كان البعض يراه ضئيل الجسم، شاحب اللون، يابس العود، يحمل على ثيابه من الغبار والأقذار ما يكفى لسد بحيرة وردم أنهار، فهو يرى أن الأرض لم تحمل أجمل منه شكلًا، ورسمًا، ولا أخف منه ظلًا، يرى نفسه عظيمًا حتى فى التسكع والبحث عن المتاعب، يريد كل شىء بشرط ألا يعمل، فهو يهوى الكسل ولا يطيق عملًا مهما كان يسيرًا. يروى فتحى رضوان وزير الإرشاد (الإعلام) فى عهد عبدالناصر، أنه وقع فى غرام عبدالحميد الديب كشاعر موهوب لا يتكسب من الكلمة ولا يبيع ضميره، فقرر أن يساعده واستعان به فى عمل مكتبى بسيط وطلب منه نسخ ملف أوراق قضية كانت ستُنظر أمام مجلس عسكرى تابع لمصلحة الحدود، فذهب ليرى ماذا فعل الشاعر فى المهمة، فوجده غارقًا فى الدماء وممزق الملابس!، وعرف أنه اشتبك مع زملائه فى المكتب بعد أن ظن أنهم يسخرون منه وهجم على أحدهم فتكاثروا عليه وضربوه علقة ماخدهاش حمار فى مطلع، فضحك رضوان وجبر بخاطره وتركه يمضى إلى حياته كما يهواها بمرها الكثير وعسلها الشحيح.
حسنًا، ففى ذات مساء وقبل حلول عيد الأضحى بأيام فكر عبدالحميد الديب فى العمل كى يدخر أموالًا تكفى لمزيد من كئوس الخمر للاحتفال بالعيد، وسولت له نفسه الذهاب إلى سوق الخراف بميدان باب الخلق ووقف على رأس الحلقة وتجرأ ودخل السوق كسمسار بين الأغنياء الذين يشترون والتجار الذين يبيعون، وحشر أنفه فى بيعة كادت تتم وراح يتحدث ويثرثر عن جمال الخروف وقوته وطراوة لحمه وعظمة ملامحه ونعومة فروته، فأصيب المشترى بالقرف والتوجس وانصرف تاركًا التاجر يصب الغضب على السمسار المزيف، ولم يكتف التاجر بالسب والضرب، لكنه استدعى الشرطة وسألوه عن الترخيص الذى يحمله ولم يكن يحمل شيئًا فأخذوه إلى القسم ومنه إلى مستشفى المجانين مباشرة الذى وقع فى غرامه وخلده فى قصيدة:
رعاك الله يا مارستان مصر
فإنك دار عقل لا جنون
حويت الصابرين على البلايا
ومن نزلوا على حكم السنين