رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبد الشافي يكتب: مستجاب.. الرومانسى الذى خطفته أودرى هيبورن

أشرف عبد الشافي
أشرف عبد الشافي

- مستجاب عاش طفولة بائسة لدرجة أنه كان يسرق الخضار لوالدته

محمد مستجاب الذى يشبه بابًا من أبواب القاهرة القديمة فى ضخامة جسده والذى يثير مخاوف الكبار والصغار بعينه الضائعة خرّ صريعا كطفل يتيم وهو يقرأ عناوين الصحف والمجلات مطلع التسعينيات عن الحالة التى أصبحت عليها أودرى هيبورن «مريضة وحيدة فى منزل مهجور»، فراح ينوح ويدارى دموعه فى طرف جلبابه وهو يكتب مقالًا كاملًا يودع فيه قصة الحب العظيمة التى عاشها معها فى صباه.

إن كانت أودرى هيبورن مريضة فهناك جيش من الجميلات عشن معه قصص حب ملتهبة، لكنه الآن وهو يقرأ الخبر توقف عند تعبير «مهجورة» فتألم وانهار باكيًا من وجع الحب الذى عاشه سنوات طويلة فى ظلال «أودرى هيبورن»، جميلة جميلات هوليوود (٤ مايو ١٩٢٩ - ٢٠ يناير ١٩٩٣)، صدمته صورتها وقد ظهرت تجاعيد الوحدة والمرض على وجهها الصبوح البكر، فراح يكتب عن ذكرياتهما معًا وكيف كانت تسافر معه إلى مؤتمرات أدباء الأقاليم وتطالبه برعاية صحته والاهتمام بنفسه كرجل استثنائى لم يظهر له مثيل، ويذهب مستجاب إلى أبعد من ذلك حين يؤكد أنها كانت تنام بينه وبين زوجته وتداعب أطفاله وتطالبه بتوطيد علاقاته مع أهله وعشيرته من آل مستجاب قاطبة.
وبينما صورتها المنشورة مع خبر مرضها واكتئابها تعكس أنواعًا من الحزن والألم، كان مستجاب يحكى كيف يسعى خلال سنوات الصبا وبدايات البلوغ إلى التسلى مع فاتنات أخريات من أعضاء نقابة المهن التمثيلية ربما تهون إحداهن عليه ليالى السهر وعد النجوم فى هوى أودرى هيبورن، فأحب تحية كاريوكا منذ شاهدها فى فيلم مع كمال الشناوى فخطفها منه بسهولة، فلم تكن وسامة كمال الشناوى بشاربه المحفوف تستعصى على مستجاب الساحر حتى وهو بعين واحدة بعد أن فقد الثانية فى المستشفى الأميرى بديروط الشريف، محل ميلاده، وكانت تحية بجسدها الطرى ووجهها الصبوح أكثر حيوية من فاتن حمامة التى أحبها بعض الوقت وأخذها من الشاشة إلى غرفة نومه فجلست صامتة تسبغ عليه حنانا أخويا أفقده شهوة الكلام وأعاد قلبه إلى أودرى ثانية.
وكثيرون ممن عاصروا مستجاب وجلسوا إليه أو صادفوه فى شارع طلعت حرب، منطلقا بجلبابه الواسع نحو أتيليه القاهرة لم يتصوروا يومًا أن يكون هذا الرجل القوى رومانسيًا حتى البكاء، لكنهم إن قرأوا مقالاته عن الحب والورد والفل فى كتابه الشيق «نبش الغراب فى الواحة» الذى صدر عن كتاب العربى وضم مقالاته فى المجلة سيكتشفون طفلًا وديعًا وشابًا رومانسيًا وسيمًا يرى الورد جذابًا وجميلًا، لأنه يشبه نعومة بشرة الأنثى فى ملمسه السحرى، والورد يظل طوال الليل يتلمس وسائل الوصول للنهار، كما تشتاق الفتاة لقاء الحبيب، وللورد طاقة من الجمال تصنع حوله هالة من تألق لو أمعنت فيها فى الدقائق الأولى من الصباح لانسابت جوانحك وحالت دونك الشراسة والعنف أو الشر وأثارت فيك إحساسا دافقا بالتفاؤل، وقد تحيلك إلى شاعر أو ملاك أو فراشة.
ومستجاب الذى عاش طفولة ضنكة بائسة لدرجة أنه كان يسرق الخضار لوالدته من الغيطان، مستجاب الذى هرب من كتّاب الشيخ عثمان، والمستشفى الأميرى الذى أضاع له عينًا وأبقى على أخرى يرى من خلالها الدنيا قرر أن يصنع تاريخًا من الخيال لآل مستجاب، كى يصعد بالعائلة المنكوبة فقرًا إلى أعلى درجات السمو والنفوذ والسلطة، فانقطع عن التعليم وجاء القاهرة يبحث عن المجد فعمل مساعدًا تافهًا لخطاط متواضع الموهبة فى شارع محمد على، ثم عاملًا بمعامل تحميض أفلام سينمائية بالدقى قبل أن يكفر بالقاهرة ومجدها ويعود إلى أسوان كاتبًا عند أحد المحامين ثم موظفًا بشركة المقاولون العرب فى السد العالى، ليعود إلى القاهرة مجددًا ويلتحق بالمجمع اللغوى فى ١٩٧٠، وعندما نقولد مجمع اللغة فنحن نتحدث عن العميد طه حسين، الذى كان رئيسًا له آنذاك، وبرقت أضواء المجد لمستجاب واهتدى إلى الكتابة ليصنع من خلالها تاريخ آل مستجاب عبر ملحمة من السخرية البديعة بدأت من «قيام وانهيار آل مستجاب» واستمرت حتى «الرابع من آل مستجاب»، «مستجاب الفاضل»، «كلب آل مستجاب» واكتملت فى «حرق الدم» الذى ضم مقال «أودرى هيبورن».
إنها الكتابة التى امتلك مستجاب نواصيها وحواريها وشوارعها فلم يمتلك من حطام الدنيا وبقايا مجد العائلة الغابر سوى الموهبة التى يصفها بكل غرور: «مولانا مستجاب، الذى وهبه الله (القلم)، حيث القلم هبة إلهية، أداة الكتابة، وأقرب الأدوات جميعًا إلى قلب مولانا مستجاب، ومع صغر حجم قلم مولانا مستجاب بالنسبة للفأس والسيف والمدفع وكبشة الطبيخ، فإنه هو القادر على إضاءة المسافة بين السماء والأرض، يمتلك قلمًا شرسًا قويًا حزينًا ومراوغًا، يختصر تلك القدرة الهائلة للعقل والقلب والجلباب الذى يرتديه ليصنع به الأعاجيب، وكلما سافر وتجول ولعب وضحك وتعارك ونام وقرأ وشاهد انشحن القلم جيدًا لكى تزيد رهافته وبصيرته وخطورته..»، ويمكنك أن تضيف رومانسيته كصفة أساسية لم يعترف بها فى حياته وتركها بين الكتب.